للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا التقسيم وإن كان ليس دقيقا كل الدقة إلا أنه يرسم الخطوط العريضة التي أحاطت بالتصوف يمنة ويسرة حتى يومنا هذا, وإن كان مدلول التصوف في كل دور يختلف عن مفهومه في الدور الآخر, وقد نقلنا آنفا عبارة الدكتور عبد الحليم محمود أن إطلاق كلمة تصوف في الأصل غير إطلاقها الذي نفهمه الآن. ذلكم أن المراد به في الدور الأول نمط من العزوف عن الدنيا وأنه كان علامة الزاهدين والمتنسكين إلى أن انتقل إلى الدور الثاني حيث دخلت الفلسفة التصوف فتحول إلى التصوف الفلسفي, فأصبح بعض الصوفية يدين بمسائل "فلسفية لا تتفق ومبادئ الشريعة بما أثار عليهم جمهور أهل السنة وجعلهم يحاربون التصوف الفلسفي, ويؤيدون التصوف الذي يدور حول الزهد والتقشف وتربية النفس وإصلاحها، حتى كادوا يقضون عليه في نهاية القرن السابع الهجري"١. وبهذا دخل التصوف الدور الثالث وهو دور الانحطاط حيث تحولت الصوفية شيئا فشيئا عن الفلسفة والبحث فيما وراء الطبيعة إلى جلسات الذكر والمجاهدة مع الغناء والرقص وتأسست التكايا ونشأت الطرق وكثر المرتزقة والدجالون والمحتالون والمشعوذون وكثر التكلم بالكرامات وخوارق العادات واشتد الإيمان بالأولياء, فنصبت فوق قبورهم القباب وأقيمت لهم الموالد والأعياد ونسبت إليهم شتى المعجزات, وكانت قبورهم تزار لجلب الأولاد أو الشفاء من الأمراض والعاهات أو جلب الحظ والإكثار من الرزق٢.

أما الدور الرابع الذي ذكره بعض الدارسين وهو دور النهضة والتجديد فلا أعتقد صحته؛ ذلكم أن الصوفية قد لاقت في العصور المتأخرة صحوة إسلامية كانت حربا عليها؛ فنهضت في الجزيرة العربية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهدمت القباب, وأبطلت النذور لها وإقامة الموالد ونحوها حتى كاد التصوف أن يزول لولا طائفة لا تزال تبث سمومها المخدرة في المجتمع.

وقامت ضد الصوفية دعوات أخرى ورجال آخرون في مناطق شتى في


١ التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج٣ ص٥.
٢ التصوف بين الحق والخلق ص٥٠ و٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>