للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكن الإسلام مع هذا التكريم كله وهذا الاهتمام حَدَّ للعقل حدودًا، هي كل ما يستطيع تبيينه، وحذره من الولوج فيما لا يستطيع إدراكه؛ خشية عليه، وحرصًا على سلامته حتى لا يضل، وكيف له وهو المخلوق أن يدرك ذات الخالق؟! بل أنَّى له أن يدرك كل المخلوقات؟! فليؤمن بما استطاع إدراكه، وليبني على ما أدرك ما لم يدرك، وما أعظمها من شفقة حين قال عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خَلَقَ الله الخَلْق فمن خَلَقَ الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا؛ فليقل: آمنت بالله" ١.

وما أعظمه من توجيه {يَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ٢، صرف الجواب عن ماهيتها؛ لأنه ليس من شئون العقل ولا من مداركه.

توجيه وشفقه هما التوجيه السديد حتى لا يتيه العقل فيما ليس من دركه، وليس من طاقته، وهما لا شك تكريم وأي تكريم.

ولذا، كذا الصحابة -رضي الله عنهم- لا يخوضون فيما لا يستطيعون دركه ومعرفته؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- يقرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} ٣، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبُّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر٤.

وليس هذا من عمر بالتسليم الأعمى -كما يعبر عنه- أو بمطلق التقليد؛ بل هو وقوف منه عند حد المعرفة، وإعراض عما زاد عنها مما هو تكلف، فهو وغيره يعرف أن "أبًّا" نبت يخرج من الأرض؛ بدليل سياق الآيات {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا} ٤ الآيات.


١ رواه مسلم: كتاب الإيمان ج١ ص١١٩.
٢ سورة الإسراء: من الآية ٨٥.
٣ سورة عبس: الآية ٣١.
٤ مجموع فتاوى ابن تيمية ج١٣ ص٣٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>