وبهذه الحكمة البشرية التي وهبها الله للإنسان ساد السادة من الملوك والقضاة والأغنياء على غيرهم "أنا الحكمة أسكن الذكاء .. لي المشورة والرأي، أنا الفهم لي القدرة، بي تملك الملوك، وتقضي العظماء عدلاً، بي تترأس الرؤساء والشرفاء، كل قضاة الأرض، أنا أحب الذين يحبونني، والذين يبكرون إليّ يجدونني، عندي الغنى والكرامة، قنية فاخرة فاخرة وحظ، ثمري خير من الذهب ومن الإبريز، وغلّتي خير من الفضة المختارة، في طريق العدل أتمشى، في وسط سبل الحق، فأورّث محبيّ رزقاً، وأملأ خزائنهم، الرب قناني أول طريقه ... "(الأمثال ٨/ ١٢ - ٢٢).
فالمتأمل لهذا وغيره - لا ريب - يجزم بأن هذه الحكمة ليست صفة الله الأزلية القائمة به، إذ تلك لا تثمن بالجواهر واللآلئ، ولا تثمر الغنى والمال والملك والسلطان، كما لا تنبت من فم البشر، ولا تشمل بالطبع مخافة الله لأنها صفة الله (١).
الألف والياء
أما نصوص سفر الرؤيا والتي ذكرت أن المسيح الألف والياء، وأنه الأول والآخر، فلا تصلح للدلالة في مثل هذه المسائل التي يتعلق بها مصير المليارات من البشر، فهي كما أشار العلامة ديدات وجميع ما في هذا السفر مجرد رؤيا منامية غريبة رآها يوحنا، ولا يمكن أن يعول عليها، فهي منام مخلط كسائر المنامات التي يراها الناس، فقد رأى يوحنا حيوانات لها أجنحة وعيون من أمام، وعيون من وراء، وحيوانات لها قرون بداخل قرون .. (انظر الرؤيا
(١) ولربما أشكل على القارئ الكريم وصف سفر الأمثال للحكمة بأنها صانعة أو خالقة في قوله: "كنت عنده صانعاً، وكنت كل يوم لذّتِه فرحةً دائماً قدامه، فرِحة في مسكونة أرضه" (الأمثال ٨/ ٣٠ - ٣١)، لكنه في الحقيقة تحريف مقصود بغرض الإلباس والتدليس، فالنص في الرهبانية اليسوعية مختلف تماماً، إذ يقول: "وكنت عنده طفلاً، وكنت في نعيم يوماً فيوماً، ألعب أمامه في كل حين، ألعب على وجه أرضه"، وهو كما ترى لا يتحدث عن الحكمة الصانعة، بل عن الحكمة الطفولية التي تنشأ في الإنسان من سني لعبه وطفولته، وتترعرع وتنضج في قابل عمره.