للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كتابه، ثم يؤكد بلهجة جازمة حاسمة أن «جَمِيعَ مَا تَقُولُهُ الأَئِمَّةُ شَرْحٌ لِلْسُنَّةِ، وَجَمِيعُ السُنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ» (١). ويكاد غير الشافعي يغلو في تفسير هذه الظاهرة حين يَعُدُّ السُنَّةَ «وَحْيًا يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالقُرْآنِ، وَيُعَلِّمُهُ إِيَّاهُ كَمَا يُعَلِّمُهُ القُرْآنَ» (٢)، ويصرح أبو البقاء بهذا التفسير حين يقول في " كلياته " (٣) دون تَجَوُّزٍ وَلاَ اتِّسَاعٍ: «وَالحَاصِلُ أَنَّ القُرْآنَ وَالحَدِيثَ يَتَّحِدَانِ فِي كَوْنِهِمَا وَحْيًا مُنَزَّلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ بِدَلِيلِ: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤] إِلاَّ أَنَّهُمَا يَتَفَارَقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ القُرْآنَ هُوَ المُنَزَّلُ لِلإِعْجَازِ وَالتحَِّدي بِهِ بِخِلاَف الحَدِيثِ، وَإِنَّ أَلْفَاظَ القُرْآن مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وَلَيْسَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَلاَ لِلْرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أََنْ يَتَصَرَّفَا فِيهَا أَصْلاً. وَأَمَّا الأَحَادِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّازِلُ عَلَى جِبْرِيلَ مَعْنًى صِرْفًا فَكَسَاهُ حلَّةَ العِبَارَةِ».

ولقد نكون أشد ميلاً - من ناحية الوحي - إلى التفرقة بين نزول القرآن على قلب النبي وإلهامه النطق ببعض الأحاديث، ثم نجنح - بسبب هذه التفرقة - إلى استقلال القرآن وحده بظاهرة الوحي على النحو الذي أوضحناه في كتابنا " مباحث في علوم القرآن " (٤)، إذ «كان - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يُفَرِّقُ بِوُضُوحٍ بَيْنَ الوَحْيِ الذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَحَادِيثِهِ


(١) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص ٣٣.
(٢) عزا القاسمي هذا إلى حسان بن عطية في رواية بهذا المعنى ذكرها في " قواعد التحديث ": ص ٣٢.
(٣) " كليات " أبي البقاء: ص ٢٨٨ (المطبعة الأميرية سَنَةَ ١٢٨١ هـ، الطبعة الثانية). وقارن بـ " الإحكام " لابن حزم: ١/ ٩٦.
(٤) راجع من كتابنا هذا بعناية خاصة الفصل الثاني من الباب الأول: ص ٢٢ (مبحث ظاهرة الوحي) الطبعة الثالثة، دار العلم للملايين.