إذا كان إمام كالأصمعي يتجنب رواية الحديث حتى «لَمْ يَرْفَعْ مِنْهُ إِلاَّ أَحَادِيثَ يَسِيرَةً»(١)، فذلك يعني أن الخوف من الكذب على رسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدركه كما أدرك الرعيل الأول من الرواة العلماء، فاختاروا لأنفسهم السلامة في دينهم ورعًا واحتياطًا، ولا ريب أنهم في رواية الشعر كانوا أسلم منهم في رواية الحديث، مع أن الورع لم يكن يزايلهم قط في رواية غير الحديث: فشعبة بن الحجاج مثلاً من أكبر أئمة الحديث، ويكاد يكون شغله الوحيد رواية السُنَّةِ للناس، ولكنه يميل أحيانًا إلى تزجية الوقت برواية شيء من الشعر، فيتناشد منه الكثير ذات يوم مع أبي زيد سعيد بن أوس، ويعجب لهذا بعض أصحاب الحديث فلا يملكون إلا أن يقولوا لشعبة: «" يَا أَبَا بَسْطَامٍ، نَقْطَعُ إِلَيْكَ ظَهْرَ الإِبِلِ
(١) انظر " مراتب النحويين " (لأبي الطيب اللغوي): الورقة ٧٤ (عن " مصادر الشعر الجاهلي ": ص ٢٦٠).