وحتى لو عُدَّتْ الشواهد القليلة المروية من هذا القبيل - بأجمعها -حجة على سراية روح الإسناد بين الجاهليين، ولو فرض فوق ذلك كثرتها التي لا تحصى (وليس فقط هذا النزر القليل الذي لم يبلغنا منها سواه)، فمن ذا الذي قال: إن طريقة رواية تلك الشواهد - حتى بعد نضج علم الحديث واحتراقه - ظلت ساذجة أولية على النحو الذي حكيت به قبيل الإسلام أو في عهد الراشدين المهديين؟.
منذ أن اتسع القول في علوم الحديث، ووضعت الأصول الكبرى لمصطلحات الحديث، وشاعت بين الناس تلك القواعد والمصطلحات، بدأ الرواة يحرصون على رواية ما اتصل من الأسانيد، في كل ما أرادوا تعلمه أو تعليمه من الأخبار والسير والأشعار، وإن كانوا في ذلك كله أحرص على الورع والاحتياط في نقل أحاديث الرسول العربي الكريم.
فقد نستنتج إذن أن الناس - في عصر تصنيف العلوم - التزموا الإسناد المتصل في رواية الحديث، أو كانوا أشد التزامًا لاتصال الحلقات في هذا الضرب من الرواية الدينية (١)، ثم من حقنا - بل يجب علينا أيضًا- أن نستنتج أن أولئك الناس أنفسهم كانوا رواة لشواهد اللغة والنحو من الشعر وما كان من قبيله، فكانوا فيها ربما يَتَخَفَّفُونَ شَيْئًا ما من حَرَجِ الرواية الدينية، ولكنهم ما كانوا يتساهلون في شيء من ذلك تساهلهم في الجاهلية، لأن نقاد الحديث تركوا فيهم من الأثر العميق ما لا يزول حتى بالجهد والمعاناة!.