للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولم يكن بُدٌّ - وقد تفاوت علم الصحابة بسنة الرسول - من أن يختلفوا في تعليل بعض الأحكام، وفي ضبط بعض الألفاظ، وفي مقدار موافقتهم للسنة فما اجتهدوا فيه واستنبطوه، إذ «رَأَى كُلُّ صَحَابِيٍّ مَا يَسَّرَهُ اللهُ لَهُ مِنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ وَفَتَاوَاهُ وَأَقْضِيَتَهُ، فَحَفِظَهَا وَعَقَلَهَا، وَعَرَفَ لِكُلِّ شَيْءٍ وَجْهًا مِنْ قِبَلِ حُفُوفِ القَرَائِنِ بِهِ، فَحَمَلَ بَعْضَهَا عَلَى الإِبَاحَةِ، وَبَعْضَهَا عَلَى النَّسْخِ لأَمَارَاتٍ وَقَرَائِنَ كَانَتْ كَافِيَةً عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ العُمْدَةُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ وِجْدَانُ الاِطْمِئْنَانِ وَالثَّلَجِ مِنْ غَيْرِ اِلْتِفَاتٍ إِلَى طُرُقِ الاِسْتِدْلاَلِ» (١).

تمر بالنبي وصحابته جنازة، فيقوم لها ويقوم الصحابة معه اقتداءً به، ولكنهم لا يعرفون سر قيامه لها، ولا يكتم أحد الصحابة عجبه، فيقول: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، ويجيبه النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!» ثم يردف مُعَلِّمًا مُرْشِدًا: «إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ، فَقُومُوا لَهَا» (٢). وقد اختلف الصحابة في تعليل القيام للجنازة، وتفسير عموم الأمر به للمؤمن والكافر على السواء، فقيل: تعظيمًا لهول الموت: وقيل: إعظامًا للملائكة الحافين بالميت (٣). ولكن مقتضى التعليل بقوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» أن القيام يستحب لكل جنازة (٤).

ويروي عبد الله بن عمر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ


(١) قارن بـ " حجة الله البالغة ": ص ١١٣ (لولي الله الدهلوي) طبع بمصر سَنَةَ ١٣٤١ هـ.
(٢) الحديث في " الصحيحين " من طريق جابر بن عبد الله مرة، ومن طريق سهل بن حنيف مرة أخرى. وقارن بـ " سنن أبي داود ": ٣/ ٢٧٧ رقم الحديث ٣١٧٤ (باب القيام للجنازة).
(٣) قارن بـ " حجة الله البالغة ": ص ١١٤.
(٤) إلى هذا التعليل ذهب الشوكاني في " نيل الأوطار ".