للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقهه لا يستحضر من النقل الكثير ولكنه يستحضر ما يحتاج إليه.

وكانت له ديانة متينة، وكان سري الهمة رفيع القدر، تخطط بخطة القضاء في غير ما بلد، وكان أبوه قاضيا وبيتهم بيت علم وقضاء وتوارث سؤدد، ثم قضى ببجاية فكان في قضائه على سنن الفضلاء وطريق الأولياء والعقلاء، قائما بالحقوق، وقافا مع الصدق، معارضا للولاة فيما يخالف طريق الشرع ومبائنا لهم.

ثم أنصرف عن بجاية فولى قضاء حاضرة أفريقية، فكان له فيها الظهور في أحكامه، والمضاء في قضائه ما اشتهرت آثاره، وتواترت أخباره. ولما توفى رحمه الله، عجز القضاة بعده هنالك على سلوك منحاه، واقتفاء سننه الذي اقتفاه، وكان رحمه الله، كثير التشديد في أمر الشهادة والشهود، يرى التنصل عنها عملا وتقديما، ولقد أخبرني رحمه الله، إنه ما شهد قط إلا شهادة واحدة دعته الضرورة إليها، وكان لا يرى أن يقدم الشهود إلا عند الحاجة، وأما إذا كان من تقع به الكفاية فلا يقدم، ويرى أن الكثرة مفسدة، وقلما كان يقدم رحمه الله. ولقد ذكر لي إنه عرض عليه في مدة ولايته بحاضرة أفريقية، أن يقدم رجلا من أهلها، ووقعت العناية به حتى بلغ الأمر إلى عناية الملك به، إلى أن شابه فيه فتمنع من ذلك وقال له: إذا شئتم أن تقدموه اخبروني وقدموا من تقدمونه، فقبلوا قوله فأقروه ولم يقدم الرجل، وكان إذا جرى الأمر في تحرير معنى الشهادة ويجري فيه ما قاله القاضي أبو بكر ابن العربي وغيره، من أنها قول قبول الغير على الغير دليل، يرى أن هذا من الأمر العظيم الذي لا يليق أن يمكن منه إلا الآحاد، الذي تبين فضلهم في الوجود، وكان يرى أن جنايات الشاهد إنما هي في صحيفة من يقدمه من باب قوله، عليه السلام، من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة، وهذا كله باب احتياط وديانة، والشهادة أولى ما وقع التحوط عليه والنظر في أمره، ومنصب الشهادة من الأمر العظيم والخطب الجسيم.

<<  <   >  >>