العظم بعثها في الدهر القديم ملك القسطنطينية إلى بلد لنقبردية. وبهذه البلدة ثلثمائة فقيه من المسلمين وعندهم يتحاكم أهل لنقبردية وهم يعقدون لهم وثائق أشريتهم وبيوعهم، وفيها من المسلمين تجار أغنياء عددهم أزيد من أربعمائة ولهم مبان سرية ومتاجر قوية ولذلك صار المتوجهون من التجار والحاج إلى رومة لا بد لهم من بونية.
[بوليه:]
مدينة على البحر الشمالي، وهو بحر لا يركبه أحد لغلظ جوهر مائه وظلمته وتكاثف الهواء عليه.
البويب (١) :
موضع بالعراق قريب من الكوفة فيه كانت وقيعة بين المسلمين والأعاجم أيام عمر رضي الله عنه بعد وقعة جسر أبي عبيد رحمه الله، فإنه لما بلغ عمر والمسلمين مقتل أبي عبيد والمسلمين يوم الجسر أهمهم ذلك وحركهم، فاستخلف عمر رضي الله عنه على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخرج فنزل بصرار يريد أرض فارس وقدم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فنزل الأعوص فدخل عليه العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فأشاروا عليه بالمقام وقالوا: شاور الناس، فكتب إلى علي وطلحة رضي الله عنهما فقدما عليه فجمع الناس وقال: إني نزلت منزلي هذا وأنا أريد العراق فصرفني عن ذلك قوم من ذوي الرأي منكم، وقد أحضرت هذا الأمر من خلفت ومن قدمت فأشيروا علي، فقال علي رضي الله عنه: أرى أن ترجع إلى المدينة وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم ويحذروا على أنفسهم، وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فقدمهم إليهم فتكون دار هجرة لهم حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل السابقة والقدم. فانصرف عمر رضي الله عنه إلى المدينة وكتب إلى المثنى بن حارثة بأن يدعو من حوله ولا يقاتل أحداً حتى يأتيه المدد وقدم من الأزد وبارق وغامد وكنانة سبعمائة أهل بيت فسيرهم إلى العراق فشخصوا إلى الكوفة فقدموا على المثنى بن حارثة فأقبل بهم حتى نزلوا العذيب وقدم أربعمائة أهل بيت من كندة والسكون فيهم الأشعث بن قيس ومعاوية بن حديج وشرحبيل بن السمط وقدم ألف أهل بيت فيهم ثلثمائة بيت من النخع، ثم قدم المدينة ألف أهل بيت من همدان فقالوا لعمر رضي الله عنه:
خر لنا، قال: أرض العراق، قالوا: بل الشام، قال: بل العراق، فصرفوا ركابهم إلى العراق وقدمت بجيلة فيهم جرير بن عبد الله وهم أربعة آلاف وقيل ألفان، ففصلوا إلى العراق ممدين إلى المثنى بن حارثة ثم تتابعت الإمداد فنزلوا العذيب بالعيال وهم قبائل اليمن والحجاز والأزد ثم حضرموت وكندة، ثم النخع ومراد ثم همدان ثم بجيلة ثم جاءت قبائل الحجاز وأهل البوادي من تميم وبكر، وجاءت طيء عليها عدي بن حاتم، وجاءت أسد وقيس والرباب وضبة وحنظلة وطوائف من سعد والنمر بن قاسط. ووجه يزدجرد مهران بعد وقعة الجسر وأمره أن يبث المسالح إلى أدنى أرض العرب ويقتل كل عربي قدر عليه، فخرج مهران في الجنود يريد الحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباع ما بين القادسية وخفان، فاستبطن فرات باذقلى، وأرسل إلى جرير رضي الله عنه ومن معه: قد جاءنا أمر لن نستطيع معه المقام حتى يقدموا علينا فعجلوا اللحاق بنا وموعدكم البويب ومهران من وراء الفرات بازائه. واجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلي موضع الكوفة اليوم وعليهم المثنى وهم بازاء مهران وعسكره، فكاتبه مهران إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا، فعبر مهران فنزل على شاطئ الفرات، فقال المثنى للناس: انهدوا لعدوكم، فتناهدوا ومهران في ثلاثة عشر ألف معه ثلاثة فيلة، فقدموا فيلتهم واستعدوا للحرب، وأقبلوا إلى المسلمين في ثلاثة صفوف، مع كل صف فيل ورجلهم أمام فيلهم وجاءوا لهم زجل، فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت وائتمروا همساً، والمسلمون أربعة آلاف وثمانمائة، وقيل ستة آلاف، وعبأ المثنى الجيش فصير مضر وربيعة في القلب وصير اليمن ميمنة وميسرة وقال: يا معشر المسلمين قد قابلت العجم والعرب بمائة من العرب كانوا أشد علي من ألف من العجم، إن الله تعالى قد أذهب مصدوقتهم وأوهن كيدهم فلا يهولنكم سوادهم، إن للعجم قسياً بحاً وسهاماً طوالاً هي أغنى سلاحهم عندهم، فلو قد لقوكم رموكم بها فإذا أعجلوا عنها وأنفدوها فهم كالبهائم أينما وجهتموها توجهت فتترسوا والزموا مصافكم واصبروا لشدة أو شدتين ثم أنتم الظاهرون إن شاء الله تعالى. وركب يومئذ فرساً ذنوباً أدهم يدعى الشموس للين عريكته وطهارته، وكان لا يركبه إلا لقتال ويودعه ما لم يكن قتال، ومر على الرايات يحض القبائل، وقد صفوا صفوفهم، وقال: الزموا الصمت فإني مكبر ثلاث تكبيرات فإذا كبرت الثالثة فاحملوا، ومر على الرايات
(١) بعض هذه المادة في الطبري ١: ٢١٨٤ وما بعدها، ولكن المؤلف ينقل عن مصدر آخر.