مدينة عظيمة من ديار مصر بناها الإسكندر بن فيلبش فنسبت إليه، وهي على ساحل البحر الملح، وذلك أن الإسكندر لما استقام له الملك في بلاده وهي رومة وما والاها من بلاد الروم وكان رومياً فيما يقال خرج يختار أرضاً صحيحة الهواء والتربة والماء ليبني فيها مدينة يسكنها فأتى موضع الإسكندرية فأصاب فيها أثر بنيان وعمد رخام منها عمود عظيم عليه مكتوب بالقلم المسند وهو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد: أنا شداد بن عاد، شددت بساعدي الواد، وقطعت عظيم العماد، وشوامخ الجبال والأطواد، وبنيت إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأردت أن أبني هنا مدينة كإرم، وانقل إليها كل ذي قدم، من القبائل والأمم، فأصابني ما أعجلني، وعما ذهبت إليه قطعني، فارتحلت عن هذه الدار، لا لقهر ملك جبار، ولا لخوف جيش جرار، ولكن لتمام المقدار، وانقطاع الآثار، وسلطان العزيز الجبار، فمن رأى أثري، وعرف خبري، وطول عمري، فلا يغتر بالدنيا بعدي. فلما رأى الإسكندر طيب أرض ذلك المكان وصحة هوائه ومائه عزم على بناء مدينة في ذلك الموضع، فبعث إلى البلاد فحشد الصناع واختط الأساس واستجلب العمد الرخام وأنواع المرمر الملون والأحجار في البحر من جزيرة صقلية وبلاد إفريقية واقريطش، فبناها على آزاج وطبقات قد عمل لها مخاريق ومتنفسات للضوء يسير الفارس وبيده رمح فيه فلا يضيق عليه منها طريق من تلك الآزاج حتى يدور جميع بلد الإسكندرية وكانت أسواقها مقنطرة كلها فلا يصيب أهلها المطر، وبنى أسوارها من أنواع الرخام الأبيض والملون وكذلك جميع قصورها ودورها فكانت تضيء بالليل بغير مصباح لشدة بياض الرخام وربما علق على أسوارها وقصورها شقق الحرير الأخضر لاختطاف بياضها أبصار الناس، وبنى عليها سبعة أسوار أمام كل سور خندق وسور فصيل، فيقال إنها كانت أعظم مدينة بنيت في معمور الأرض وأغربها بنياناً.
وبنى المنار الذي ليس على قرار الأرض مثله على طرف اللسان الداخل في البحر من البر وجعله على كرسي من زجاج على هيئة السرطان في جوف البحر، وجعل طوله في الهواء ألف ذراع وجعل في أعلاه المرآة، وكانت المرآة قد ركبت من أخلاط عجيبة غريبة فيبصر فيها ما يأتي من مراكب العدو على مسيرة أيام فيتأهب لهم فإن قربت المراكب من البلد عملت أخلاط بأدهان يعرفونها وطليت بها المرآة وعكس شعاعها على تلك المراكب فأحرقها وجعل في المنار تماثيل من نحاس وطلاسم كثيرة تمنع وتدفع ولها خواص، منها تمثال مشير بيده نحو العدو فإذا صار منه على مقدار ليلة فإن دنا وأمكن أن يرى بالبصر سمع لذلك التمثال صوت هائل على ميلين وثلاثة، وتمثال آخر كلما مضى من الليل أو من النهار ساعة سمع له صوت طرب بخلاف الصوت الذي كان منه قبل ذلك، فمن الناس من يرى أن هذه المنارة من بناء الإسكندر ومنهم من يرى أن دلوكة الملكة بنتها ومنهم من يرى أن جيرون الملك بناها، وقيل إن الذي بنى الأهرام بمصر بناها، وقيل الذي بنى رومة بناها وبنى الإسكندرية، قال: وإنما أضيفت إلى الإسكندر لسكناه بها وغلبته على ممالك الأرض، وقيل إن الإسكندر كان لا يخاف أن يطرقه عدو في البحر ولا يهاب ملكاً فيجعل لذلك مرقباً وحراساً، وقيل إن أول من ملك الإسكندرية فرعون واتخذ فيها مصانع ومجالس وهو أول من عمرها ثم تداولتها الملوك من بعده، وأن سليمان عليه السلام اتخذها مسكناً وبنى فيها قصوراً ومصانع عجيبة من بناء الجن له وبنى في المنار مسجداً متقناً هو باق إلى الآن، والأصح أن الإسكندر بناها من أولها واختط أساسها وبنى المنار فيها وعمل المرآة في أعلاها، فيقال إنه ما ظهر العدو في البحر إلا بعد زوال تلك المرآة، وكان ملك الروم أعمل الحيلة في زوال المرآة من المنار: فبعث خادماً من خواص خدمه ذا دهاء ومعرفة، فجاء مستأمناً إلى بعض الثغور فحمل إلى الوليد فأعلمه أنه كان من خواص ملك الروم وأنه أراد قتله لموجدة لم يكن لها حقيقة وأنه هرب منه ورغب في الإسلام، فأسلم بين يدي الوليد وأظهر له النصح في أشياء خدمه فيها ثم إنه استخرج له دفائن في دمشق وغيرها من بلاد الشام بكتب كانت عنده، فلما رأى ذلك الوليد شرهت نفسه وتمكن طمعه وباحثه عما عنده من هذا الفن فقال: إن الإسكندر استولى على ممالك العالم واحتوى على الأموال والذخائر التي كانت لشداد بن عاد وغيره من ملوك العرب والعجم فبنى لها الآزاج والسرادب والأقباء وأودعها تلك الذخائر والأموال والجواهر ثم بنى فوقها تلك المنارة التي بالإسكندرية فلو هدم ذلك المنار لاستخرج من تحته من الأموال والذخائر التي كانت لشداد بن عاد. فصدق ذلك الوليد وطمع فيه وبعث من خواصه من يقف معه على هدم المنار، وأمر صاحب الإسكندرية