للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فدعا خالد (١) رضي الله عنه بالأدلة، فارتحل من الحيرة سائراً إلى دومة، ثم طعن في البر إلى قُراقر، ثم قال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم، فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين، فكلهم قال: لا نعرف إلا طريقاً لا تحمل الجيوش، فإياك أن تغرر بالمسلمين، فعزم عليه، ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد، فقام فيهم فقال: لا يختلفن هديكم ولا يضعفنَّ يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله له، فقالوا له: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك، فطابقوه وقووا واحتسبوا فلما أراد المسير قال له محرز بن حريش وكان يتجر بالحيرة ويسافر إلى الشام: اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن، ثم أمه حتى تصبح، فإنك لا تجور فجرب ذلك فوجده كذلك، ثم أخذ في السماوة حتى انتهى إلى قُراقر ففوز من قُراقر إلى سوى، وهما منزلتان بينهما خمس ليال، فلم يهتدوا للطريق، فقال له رافع بن عميرة الطائي: خفِّف الأثقال واسلك هذه المفازة إن كنت فاعلاً، فكره خالد رضي الله عنه أن يخفّف أحداً فقال: قد أتاني أمر لا بدّ من إنفاذه، وأن نكون جميعاً قال: فوالله إن الراكب المنفرد ليخافها على نفسه ما يسلكها إلا مغروراً فكيف أنت بمن معك؟ قال: إنه لا بد من ذلك، فقد أتتني عزمة، قال: فمن استطاع منهم أن يصرّ أذن راحلته على ماءٍ فليفعل فإنها المهالك إلا ما وقى الله تعالى. ثم قال لخالد رضي الله عنه: ابغني عشرين جزوراً عظاماً سماناً مسان، فأتاه بها فظمأهنّ حتى إذا أجهدت عطشاً سقاهن حتى أرواهن، ثم قطع مشافرهن، ثم كعمهنّ، ثم قال لخالد رضي الله عنه: سر بالخيول والأثقال، فكلما نزل منزلاً نحر من تلك الشرف أربعاً فانبط ماءهن فسقاه الخيول وشرب الناس مما تزودوا، حتى إذا كان آخر تلك قال خالد رضي الله عنه لرافع: ويحك، ما عندك يا رافع فقال: أدركك الري إن شاء الله، انظروا هل تجدون شجرة عوسج على ظهر الطريق، قالوا: لا قال: إنا لله إذاً والله هلكت وأهلكت، لا أبا لكم، انظروا، فنظروا فوجدوها فكبّروا وكبّر وقال: احفروا في أصلها، فاحتفروا فوجدوا عيناً فشربوا وارتووا فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة مع أبي وأنا غلام، فقال راجز من المسلمين:

للهِ درّ رافع أنّى اهتدى ... فوز من قُراقر إلى سوى

أرضاً إذا ما جاءها الجيش بكى ... ما سارها من قبله إنس يرى

لكن بأسباب متينات القوى ... نكبها الله ثنيات الردى وكتب خالد رضي الله عنه وهو مُقْبِل إلى الشام إلى المسلمين: إن كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني يأمرني بالمسير إليكم، وقد شمرت وانكمشت وكأنْ قد أظلّت عليكم خيلي ورحالي فأبشروا بإنجاز موعود الله تعالى وحسن ثواب الله عز وجل، عصمنا الله وإياكم باليقين وأثابنا بأحسن ثواب المجاهدين، والسلام.

[القرافة:]

مدفن مشهور في البلاد المصرية يسكنه الناس ويعمرونه.

وهي إحدى (٢) عجائب الدنيا بما تحتويه عليه من مشاهد الأنبياء عليهم السلام وأهل البيت والصحابة والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء، ويذكر أن فيها قبر النبي صالح عليه السلام، وقبر روبيل بن يعقوب عليه السلام، ومشهد آسية امرأة فرعون، ومشاهد أهل البيت وفيها بناء حفيل، وفيها روضات بديعة عجيبة البنيان وكل بها قَوَمَة يسكنونها ويحفظونها، ومنظرها عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر، وكلها مساجد مبنية ومشاهد معمورة يأوي إليها الغرباء والصلحاء والفقراء، والأجراء على ذلك كله نيف على ألفي دينار في الشهر، وهي أربعة آلاف دينار مؤمنية.

وإليها ينسب أحمد بن ادريس القرافي الفقيه شهاب الدين من أهل العصر (٣) ، له تعليق على محصول ابن الخطيب سماه " نفائس الأصول في شرح المحصول "، وله " تنقيح الفصول في


(١) الطبري ١: ٢١١٢ ثم ٢١٢٢.
(٢) رحلة ابن جبير: ٤٦، ٥٠.
(٣) نسب إلى القرافة دون أن يسكنها وهو صنهاجي الأصل، كان مالكياً إماماً في الفقه وأصول الدين عالماً بالتفسير، توفي ٦٨٢ (وقال في كشف الظنون عند الحديث عن المحصول: سنة ٦٨٤، وانظر المنهل الصافي ١: ٢١٥ - ٢١٧) ، وقوله: من أهل العصر إن كان من كلام مؤلف الروض المعطار، فهو ذو قيمة في تعيين الفترة التي عاش فيها المؤلف.

<<  <   >  >>