للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أن يعينه على جميع ما يريد، فهدم ذلك الرومي قدر نصف المنار فأزال المرآة التي كانت غرضه وأراد هدم الكل فضج أهل الإسكندرية وعلموا أنها مكيدة وحيلة، فلما استفاض ذلك خشي الرومي على نفسه فهرب في الليل في مركب كان قد أعده لذلك الوقت، وبقيت المنارة على ذلك المقدار. وارتفاع هذا المنار ثلثمائة ذراع بالرشاشي (١) وهو ثلاثة أشبار، وأمر الإسكندرية ومنارها أشهر من أن يطال الكتاب بذكره، وبين الإسكندرية والمنارة في البحر ميل وفي البر ثلاثة أميال.

والإسكندرية من عمالة مصر قاعدة من قواعدها، وأرض مصر تتصل حدودها من جهة الجنوب ببلاد النوبة ومن جهة الشمال بالبحر الشامي ومن جهة الشام بفحص التيه ومن جهة الشرق ببحر القلزم ومن جهة الغرب ببلاد الواحات.

فأما المنار اليوم فهو ثلاثة أحزم، الأول مربع البناء قد عمل أحسن عمل بحجارة مربعة قد أخفي الصاقها حتى صارت كالحجر الواحد لم يغيره الزمان، وارتفاعه ثلثمائة ذراع وعشرون ذراعاً ثم ترك في أعلاه قدر غلظ الحائط وهو ثمانية أشبار ونحو عشرة أذرع سوى الغلط ورفع ما بقي من البناء مثمن الشكل طوله ثمانون ذراعاً ثم ترك غلظ حائطه وهو أقل من غلظ الأسفل وهو ثمانية اذرع سوى ذلك، ثم أقيم عليه بناء مربع الشكل ارتفاعه خمسون ذراعاً أو نحوها، وفي أعلى ذلك مسجد ينسب لسليمان عليه السلام وفي الناحية الشمالية من البناء كتابة بالنحاس لم يقدر أحد على فكها ولا معرفة ما هي، وباب المنار من حديد لا يعلم له عهد ويرقى إلى الباب من أسفل المنار في علوة لا تتبين وكذلك إلى أعلى الحزام الأول في طريق يمشي فيه فارسان متواكبان (٢) في أرض سهلة لا يعلم الراقي فيه هل هو راق أو ماش، وفي كل عطف من هذا العقد باب دار في داخلها بيوت مربعة، سعة كل بيت منها من عشرين ذراعاً إلى عشرة أذرع قد فتح لها مضاو ومنافس للهواء لئلا تهدمها الرياح، وعدد ما في المنار من البيوت ثلثمائة وأربعة وستون بيتاً، وعطف مطالعها من أسفلها إلى أعلاها اثنان وسبعون عطفاً في كل عطف اثنتا عشرة درجة، وبيوتها كلها آزاج معقودة، وبناء المنار كله معقود بخشب الساج، وعدد أبوابه الظاهرة اثنان وعشرون باباً فتحت لتخترقه الرياح ولولا ذلك لهدمته وهذا المنار من دخله ولم يعرف مسالكه تاه فيه وضل لأن فيه طرقاً تؤول إلى أسفله وإلى البحر، ويقال إن جيش صاحب المغرب حين وصل الإسكندرية وذلك في خلافة المقتدر دخل جماعة منهم المنار على خيولهم ليروا ما فيه من الغرائب فتاهوا وتهوروا هم ودوابهم وفقد منهم عدد كبير. وكان البحر أثر في أسفل المنارة من غربيها كالكهف العظيم فسد بعض أمراء مصر ذلك الثلم بأساطين الرخام بعضها فوق بعض، فالبحر يضرب اليوم في تلك الأساطين فلا يوثر فيها شيئاً. وفي جهة الشمال من المنار، بناء عظيم عريض قد ارتفع من فم البحر حتى ظهر على وجه الماء يدل على أنه كانت عليه مصانع قد ذهبت، ويسمى ذلك البنيان الفاروس، وتحته مرسى السفن لأنه يكف عنها الريح والموج، وقد زعم قوم أن ذلك الظاهر ليس ببناء وإنما هو هدم من حجارة المنار الذي ذكرناه. ولهذه المنارة بالإسكندرية مجمع في العام يسمونه بخميس العدس، وهو أول خميس من شهر نيسان لا يتخلف في الإسكندرية عن الخروج إلى المنار ذلك اليوم أحد، وقد أعدوا لذلك الأطعمة والأشربة، ولا بد في ذلك الطعام من العدس، فيفتح بابها للناس ويدخلون فيها، فمن ذاكر لله تعالى ومصل ومن لاه متفرغ، فيقيمون إلى نصف النهار ثم ينصرفون، ومن ذلك اليوم بعينه يحترس البحر. وفي المنارة قوم مرتبين يوقدون النار بالليل كله في الحزام الأول، ليؤم أهل السفن سمت تلك النار من جميع البلاد، ويوقد صاحب السفينة النار في سفينته، فإذا رأى المحترسون النار في البحر زادوا في وقود النار وأوقدوها من جهة المدينة، فإذا رأى ذلك محرسو المدينة ضربوا الأبواق والأجراس حذراً من العدو.

وكان حول المنار مغايص يستخرج منها أنواع الأحجار، يتخذ منها فصوص الخواتم، وكان حول المنارة من تلك الجواهر كثير، فيقال إن الإسكندر غرق ذلك حول المنار ليوجد هناك إذا طلب فيكون ذلك الموضع أبقى لها ويرى الناس على مر الدهر عظم ملكه وما قدر عليه من وجود ما عز عند غيره، وقيل إنها كانت آلات شراب الإسكندر فلما مات كسرتها أمه ورمتها في تلك المواضع غيرة أن لا تصير لأحد بعده.

والقصر الأعظم الذي بالإسكندرية الذي لا نظير له في معمور الأرض اليوم خراب، وهو على ربوة عظيمة بازاء باب الموسم، طوله خمسمائة ذراع وعرضه على النصف من ذلك، ولم يبق منه إلا بعض سواريه، وبابه من أعظم بناء وأتقنه كل عضادة منه


(١) الذراع الرشاشي نسبة غلى الرشاش الذي اتخذ ذراعه وحدة للقياس (انظرابن الفرضي ١: ١٩٦) .
(٢) الاستبصار: متناكبان.

<<  <   >  >>