صاحب مصر معد المستنصر بن الظاهر العبيدي، حتى ظفر بالخليفة القائم بأمر الله، والبساسيري هذا مملوك تركي سما بنفسه إلى أن صار مشاراً إليه بين قواد الدولة العباسية، ووقع بينه وبين الوزير رئيس الرؤساء ما أوجب خروجه عن الطاعة وانتماءه إلى المستنصر صاحب مصر، فخطب له في بلاد الرحبة من بلاد الفرات، ثم خطب له بالموصل، فأخرجه منها أبو طالب محمد بن ميكائيل المعروف بطغرلبك، ثم عاد إليها في هذه السنة مع قريش بن بدران أمير عقيل، فاستولوا عليها وأقاموا فيها الدعوة العبيدية، وتجهز طغرلبك السلجوقي إلى قتالهم، فجاءه خبر بأن أخاه إبراهيم خرج عليه وادعى السلطنة في همذان. وكان ذلك بدسيسة البساسيري وقريش، فإنهما أطمعاه في الاستبداد وضمنا له المعاضدة، فعدل طغرلبك عن البساسيري إلى أخيه واشتغل بحربه، فسار البساسيري وقريش إلى بغداد وخطب للمستنصر خليفة مصر العبيدي بجامع المنصور، وعقد الجسر ووقعت الحرب عليه، فغلب أصحاب البساسيري واستولوا على مدينة الرصافة، وخطبوا بجامعها للمستنصر، واتصلت الحرب في مدينة نهر معلى التي بها قصور الخلافة، وباتوا في دار الخلافة محاصرين، فركب القائم العباسي بنفسه لابساً السواد، وعلى كتفيه البردة النبوية، وبيده سيف مسلول، وعلى رأسه اللواء العباسي، والخدم بالسيوف المسلولة، فصاح البساسيري بأصحابه: لا تشغلنكم الهيبة والخديعة عن إدراك الغرض، احملوا وصيحوا بشعار ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملوا وصاحوا بشعار المستنصر، فلما رأى القائم العباسي الخليفة الحقيقة جلس في منظرة مطلة مشاهداً للحروب، ومعه رئيس الرؤساء وزيره، ثم أْمر بتسكين الحرب، وطلب الصلح، والنهب يعمل عمله وصاح القائم من المنظرة: هل لك يا قريش في شرف الدهر وعز الأعقاب، أنزلُ على أمانك، فدمعت عيناه وقال: والله لا يصل إليك أحد وسيفي في يدي أبداً، ثم نزل فحمله معه والوزير رئيس الرؤساء وزيره يتضرع في الأمان وهو مع الخليفة، فوصل به إلى خيمته وأنزله مكرماً بها وأسلم الوزير رئيس الرؤساء للبساسيري وأجار القائم وسلمه لابن عمه مهارش العقيلي صاحب الحديثة وعانة، فحمله معه وأسكنه في جزيرة عانة بالفرات، فوجد على الدار التي كان محبوساً فيها:
أما ترى الدهر وتدبيره ... حكى لعمري فيه مجانه
يقطر ماء الظرف من هزله ... إذ أنزل القائم في عانه فنقل ذلك إلى القائم فتبسم وقال: لعمري لقد أبدع في تدبيره، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولم يدر قائل البيتين، ولما بلغ المستنصر خليفة مصر هذان البيتان أدركته شفقة فقال لوالدته: لقد هممت أن أرد ابن عمي إلى بغداد يكون نائباً وتبعاً ويكون ولده نواباً لولدنا، ويكون لنا في هذا أجر وفخر، فقالت له: بأي عقل تعتقه؟ هذا والله لو رددته يوماً واحداً ما نسي قديمه ولعاد الأمر كما كان وصار إليه من كان عليه، فإياك أن تخطر هذا بخاطرك. وأما الوزير رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن بن المسلمة فلما حصل في يد البساسيري بسط عليه العذاب واستخرج منه أموالاً كثيرة، فلما كان في يوم عيد النحر من هذه السنة ركب البساسيري وعبر إلى المصلى من الجانب الشرقي وعلى رأسه الألوية المستنصرية، فصلى وأنشده الشعراء، وكان فيهم أبو دلف الخزرجي الينبوعي المتشيع، فوقف تحت البنود البيض وأنشد:
دارَ السلام هنيئاً ... بدعوة ابن الرسول
جاء النهار وولى ... ظلام تلك الذحول
ما إن رأيت حصاناً ... حماله في النصول
نور من الله سامٍ ... هادٍ لكل خذول فأمر له بإحسان جزيل. ولمَا فرغ البساسيري من أيام العيد أخرج الوزير رئيس الرؤساء وعليه جبة صوف وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مخنقة من جلود، فشُهر على تلك الحال، ثم نُصِبتْ له خشبة وألبس جلد ثور، وجعل في فكيه كلابان وصُلب بهما، فبقي يضرب إلى آخر النهار حتى مات وكان قد بقي في الوزارة اثنتي عشرة سنة ثم إن طغرلبك قَدِم لنصرة القائم، فهرب البساسيري أمامه، ونهب البساسيري مدينة واسط وعاث في كل ما مر به من بلاد العراق، وسار مهارش العقيلي من جزيرة الحديثة بالخليفة القائم العباسي، فسر السلطان طغرلبك بقدومه، وكان قد وصل إلى بغداد وسكن أهلها وأمنهم، وخرج للقاء القائم، ونزل عن فرسه، وقبل الأرض بين يديه، واعتذر من تأخره باشتغاله بحرب أخيه إبراهيم حتى فرغ منه، فقلَّده القائم سيفاً بيده، ووصل القائم دار الخلافة وطغرلبك ممسك بلجام بغلته في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وصار طغرلبك خلف البساسيري