للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لا تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في عمله فيؤتى به إلا قطع يده، قال: فتخلف رجل ممن كان يعمل فيه حتى طلعت الشمس، وكانت له أمّ عجوز، فذهب بها معه لتستوهبه من أبرهة، فأتته به وهو بارز للناس، فذكرت له علة ابنها واستوهبته منه فقال: لا أكذب نفسي ولا أفسد عليّ عمالي، فأمر بقطع يده، فقالت له أمّه: ضرب بمعولك ساعي بهر، اليوم لك وغداً لغيرك، ليس كل الدهر لك، فقال: ادنوها، فقال لها: إن هذا المُلْك أيكون لغيري؟ قالت: نعم، وكان أبرهة قد أجمع أن يبني القليس حتى يظهر على ظهره فيرى منه بحر عدن، فقال: لا أبني حجراً على حجر بعد يومي هذا، فأعفى الناس من العمل، وتفسير قولها: ساعي بهر، تقول: اضرب بمعولك ما كان حديداً، فانتشر خبر بناء أبرهة هذا في العرب، فدعا رجُل (١) من النسأة من بني مالك بن كنانة فتيين منهم فأمرهما أن يذهبا إلى ذلك البيت الذي بناه أبرهة بصنعاء فيحدثا فيه، فذهبا ففعلا ذاك، فدخل أبرهة البيت فرأى آثارهما فيه فقال: من فعل هذا؟ فقيل: رجلان من العرب، فغضب من ذلك وقال: لا أنتهي حتى أهدم بيتهم الذي بمكة.

وقيل (٢) : لما تحدثت العرب بكتاب أبرهة بذلك إلى النجاشي غضب رجل من النسأة أحد بني فقيم من بني كنانة، فخرج حتى أتى القليس، فقعد فيها، أي أحدث فيها، ثم خرج حتى لحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنعه رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكّة لما أن سمع بقولك: أصرف إليها حاج العرب، فغضب فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهل، فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه.

قال (٣) : فساق الفيل إلى البيت الحرام ليهدمه، فكان من أمر الفيل ما كان، فلم يزل القليس على ما كان عليه حتى ولى أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين العباسَ بن الربيع بن عبيد الله (٤) الحارثي اليمن، فذكر للعباس ما في القليس من النقض والذهب والفضة وعظم ذلك عنده وقيل له إنك مصيب فيه مالاً كثيراً وكنزاً، فتاقت نفسه إلى هدمه وأخذِ ما فيه، فبعث إلى ابن لوهب بن منبه فاستشاره في هدمه وقال: إن غير واحد من أهل اليمن قد أشاروا علي أن لا أهدمه، وعظم علي أمر كعيب وذكر أن أهل الجاهلية كانوا يتبركون به، وأنه كان يكلمهم ويخبرهم بأشياء ممّا يحبون ويكرهون، قال ابن وهب: كل ما بلغك باطل، وإنما كعيب صنم من أصنام الجاهلية فتنوا به، فمر بالدهل - وهو الطبل - وبمزمار فليكونا قريباً، ثم اعله بالهدامين، ثم مرهم بالهدم، فإن الدهل والمزمار أنشط لهم وأطيب لأنفسهم، وأنت مصيب من نقضه مالاً مع أنك تثأر من الفسقة الذين حرقوا غمدان وتكون قد محوت عن قومك اسم بناء الحبش وقطعتَ ذكرهم. وكان بصنعاء يهودي عالم، قال: فجاء قبل ذلك إلى العباس بن الربيع يتقرب إليه، فقال له: إن ملكاً يهدم القليس يلي اليمن أربعين سنة، فلما اجتمع له قول اليهودي ومشورة ابن وهب أجمع على هدمه.

وفي الروض الأنف (٥) أن أبرهة لما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق، وأقفر ما حول هذه الكنيسة فلم يعمرها العدوَ، وكثرت حولها السباع والحيات، وكان من أراد أن يأخذ شيئاً منها أصابته الجن، فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من المال، لا يستطيع أحد أن يأخذ منها شيئاً إلى زمن أبي العباس فذكر له أمرها وما يتهيبُ من جنها وحيّاتها فلم يرعه ذلك، وبعث إليها العباس بن الربيع عامله على اليمن معه أهل الحزم والجلادة، فخربوها وحصلوا منها مالاً كثيراً، أبيع ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها، فعفا بعد ذلك رسمها وانقطع خبرها ودرست آثارها، وكان الذي يصيبهم من الجن ينسبونه إلى كعيب وامرأته، صنمين كانت الكنيسة بنيت عليهما، فلما كسر كعيب وامرأته أصيب الذي كسره بجذام، فافتتن بذلك رعاع اليمن وطغامه، وقالوا: أصابه كعيب.

وذكر أبو الوليد الأزرقي عن الثقة عنده قال (٦) : شهدت العباس وهو يهدمه فأصاب منه مالاً عظيماً، ثم رأيته دعا بالسلاسل فعلقها في كعيب والخشبة التي معه، فاحتملها الرجال فلم يقربها أحد مخافة، لما كان أهل اليمن يقولون فيها، قال: فدعوا


(١) ع: رجلان ... فأمراهما.
(٢) هذه هي رواية ابن إسحاق في السيرة ١: ٤٣، ٤٥.
(٣) عاد إلى نص الأزرقي.
(٤) ص ع: عبد الله.
(٥) الروض ١: ٢٤٦.
(٦) الأزرقي ١: ٩٢.

<<  <   >  >>