للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بالطاعة له، فأطاعه كثير من القبط، فاستعان بهم على من سواهم، ثم سار عمرو إلى البلد الذي كان فيه الملك المقوقس، وكان حصناً عظيماً، فاتقى بخندق حوله، واصطف المسلمون على أبواب الخندق وعليهم السلاح والدروع، ثم إن عمر رضي الله عنه بعث الزبير بن العوام رضي الله عنه في اثني عشر ألفاً فقوي المسلمون، فجعل عمرو يلح بالقتال ووضع المنجنيق، فلما أبطأ الفتح على المسلمين قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنا أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله على المسلمين، فوضع له سلم إلى باب الحصن، فرقي فيه ثم قال: إذا سمعتم تكبيري أجيبوني، فما شعر أهل الحصن إلا بالزبير رضي الله عنه على رأس الحصن يكبر، والسيف بيده منتضى، فتحامل المسلمون على السلم حتى نهاهم عمرو خوفاً أن ينكسر بهم، فهرب أهل الحصن جميعاً، وعمد الزبير إلى باب الحصن ففتحه، فاقتحم المسلمون فيه، فلجأ الروم والقبط إلى قصر منيع في الحصن، فحاربهم المسلمون نحو شهر وكان في ذلك القصر الملك المقوقس مع أكابر الروم، فخاف المقوقس على نفسه وعلى من معه، فخرج على باب من موضع خفي، وترك في القصر جماعة يقاتلون، وأمر بقطع الجسر، ثم أرسل المقوقس إلى عمرو: إنكم قوم قد دخلتم بلادنا وطال مقامكم بأرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم الجيوش، وقد أحاط بكم هذا النيل، فأنتم أسارى بأيدينا، فابعثوا إلينا رجلاً منكم نسمع كلامه، فعسى يأتي الأمر بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جيوش الروم فتندموا، فرد عمرو مع رسله: إنه ليس بيننا وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما أن تدخلوا في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لنا ما لكم وعلينا ما عليكم، فإن أبيتم أعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، أو جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فلما رجعت رسل المقوقس قال لهم: كيف رأيتموهم؟ قالوا: رأينا قوماً الموت إلى أحدهم أحب من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على الركب، وأميرهم كواحد منهم يغسلون أطرافهم بالماء، وإذا حضرت صلاتهم لم يتخلف أحد منهم،

ويخشعون في صلاتهم تخشعاً كثيراً، فقال المقوقس: والذي نحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لزلزلوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد وإن لم نغتنم صلح هؤلاء القوم وهم محصورون بهذا النيل. لن يجيبوا إذا تمكنوا من الأرض، وكان ذلك وقت خروج النيل وفيضه، والمسلمون قد أحدقت بهم المياه من كل جانب، لا يقدرون على النفوذ إلى الصعيد ولا إلى غيره. ن في صلاتهم تخشعاً كثيراً، فقال المقوقس: والذي نحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لزلزلوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد وإن لم نغتنم صلح هؤلاء القوم وهم محصورون بهذا النيل. لن يجيبوا إذا تمكنوا من الأرض، وكان ذلك وقت خروج النيل وفيضه، والمسلمون قد أحدقت بهم المياه من كل جانب، لا يقدرون على النفوذ إلى الصعيد ولا إلى غيره.

ثم بعث (١) إليهم عمرو بن العاصي رضي الله عنه عشرة رجال، أحدهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وكان أسود اللون من العرب وأمره أن يكون متكلم القوم فإنه كان فصيحاً، وأمره ألا يجيبهم إلا إلى إحدى ثلاث خصال، وهي المذكورة قبل، فركبوا السفن ودخلوا على المقوقس، فتقدم عبادة رضي الله عنه للكلام فهابه المقوقس لسواده وقال: نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره، فقالوا جميعاً: هذا الأسود سيدنا وأفضلنا رأيا وحكمة، فكلمه عبادة رضي الله عنه، وازداد المقوقس هيبة لسواده وقال: نحوا عني هذا الأسود، فقالوا جميعاً: هذا الأسود سيدنا وأفضلنا رأياً وعلماً، فكلمه عبادة رضي الله عنه مرة أخرى، فقال المقوقس لأصحابه: لقد هبت منظره وان قوله عندي لأهيب، وإن هذا وأصحابه إنما خرجوا لإخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها، وقال: نعطي كل من في الجيش دينارين دينارين، ونعطى أميرهم مائة دينار، ونبعث إلى خليفتهم ألف دينار فلم يجبه عبادة رضي الله عنه إلا إلى إحدى الثلاث خصال، فقال المقوقس لأصحابه: ماذا ترون؟ فقالوا: أما ما أراد من دخولنا في دينهم، فهذا ما لا يمكن ولا نترك دين المسيح إلى دين لا نعرفه، وأما ما أراد أن يجعلونا عبيداً فالموت أيسر من ذلك، فإن رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم وينصرفوا عنا كان ذلك أهون علينا.

فانصرف عنهم (٢) عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأصحابه ولم ينعقد بينهم صلح على شيء، فألح عليهم المسلمون بالقتال حتى أذعن المقوقس لإعطاء الجزية عن القبط خاصة، وأما الروم فيخيرون في المقام على الجزية أو الخروج إلى أرض الروم، وتم ذلك بينهم وبين المسلمين، فأحصي يومئذ جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط فكانوا ستة آلاف ألف ممن بلغ الحلم، سوى الشيخ الفاني والصغير النامي والنساء، وفرض على كل واحد منهم دينارين دينارين في السنة، فكانت فريضتهم اثني عشر ألف ألف،


(١) النقل مستمر عن ابن عبد الحكم.
(٢) لا يزال اعتماده على ابن الحكم مستمراً.

<<  <   >  >>