مُصحَفٍ في فلاةٍ من الأرضِ، ولم يُعلمْ منْ وضعهُ هناك، لشهدتِ العُقولُ
السَّليمةُ أنَّه منزلٌ مِن عندِ اللَهِ، وأنَّ البشرَ لا قدرةَ لهم على تأليفِ ذلك.
فكيف إذا جاءَ على يديْ أصدقِ الخلقِ وأبرِّهم وأتقاهُم، وقال إنَّه كلامُ
اللَّهِ، وتحدَّى الخلقَ كلَّهم أن يأتوا بسُورةِ من مثلِهِ، فعجزُوا.
فكيف يبقى مع هذا شكٌّ فيه؛ ولهذا قال تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) .
وقال تعالى: (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَئا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) .
فلو لم يكنْ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منَ المعجزاتِ الدالةِ على صدقهِ غيرُ هذا الكتابِ لكفاهُ، فكيفَ ولهُ من المعجزاتِ الأرضيةِ والسماويةِ ما لا يُحصَى.
وقوله: (يُزَكيهِمْ) : يعني أنَّه يُزكِّي قلوبَهم ويطهرُها من أدناسِ الشركِ
والفُجورِ والضلالِ؛ فإنَّ النفوسَ تزكو إذا طهرتْ من ذلك كلِّه، ومن زكتْ
نفسُه فقد أفلحَ، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَاهَا) .
وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكى) .
وقوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .
يعني بالكتابِ القرآنَ، والمرادُ: ويعلّمُهم تلاوةَ ألفاظِهِ.
ويعني بالحكمةِ فهمَ معاني القرآنِ والعملَ بما فيه.
فالحكمةُ هي فهمُ القرآنِ والعملُ به، فلا يُكْتَفى بتلاوةِ ألفاظِ الكتابِ حتَّى
يُعلمَ معناهُ ويُعملَ بمقتضاهُ، فمن جُمعَ له ذلك كلُّه فقد أُوتِيَ الحكمةَ.
قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يؤْتَ الْحِكمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كثِيرًا) .
قالَ الفضيلُ: العلماءُ كثيرٌ، والحكماءُ قليلٌ.
وقال: الحكماءُ ورثةُ الأنبياءِ.
فالحكمةُ هي العلمُ النافعُ الذي يتبعُه العملُ الصالحُ. وهي نورٌ يقذفُ في