قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (١٧)
ولما كانتْ هذه الشريعةُ خاتمةَ الشرائع وعليها تقومُ الساعةُ، ولم يكنْ بعدَها
شريعةٌ ولا رسالةٌ أخرى، تبيِّنُ ما تبدَّلَ منها وتجدِّدُ ما درسَ من آثارِهَا، كما
كانتِ الشرائعُ المتقدمةُ تجدِّدُ بعضُها آثارَ بعضٍ، وتبينُ بعضُها ما تبدَّلُ من
بعضٍ، تكفلَ اللَّهُ بحفظ هذه الشريعةِ ولم يجمعْ أهلَها على ضلالةٍ، وجعلَ
منهم طائفةً قائمةً بالحقًّ لا تزالُ ظاهرةً على من خالفَها حتى تقومَ الساعةُ.
وأقامَ لها من يحملُها ويذبُّ عنها بالسيفِ واللسانِ والحجةِ والبيانِ، فلهذا أقامَ
اللَّهُ تعالى لهذه الأمَّةِ من خلفاءِ الرسلِ وحملةِ الحجةِ في كلِّ زمانٍ من يعتني
بحفظِ ألفاظِ الشريعةِ وضبطِهَا وصيانتِهَا عن الزيادةِ والنقصانِ ومن يعتني
بحفظ معانيها، ومدلولاتِ ألفاظِهَا وصيانتِهَا عن التحريفِ والبهتانِ.
والأولونَ أهلُ الروايةِ، وهؤلاءِ أهلُ الدرايةِ والرعايةِ، وقد ضربِ النبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - مثل الطائفتينِ. كما ثبتَ في "الصحيحينِ " عن أبي موسى، قالَ: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
"إنَّ مثلَ ما بعثني اللَّهُ به من الهدى والعلم، كمثلِ غيث أصابَ
الأرضَ فكانتْ منها طائفة قبِلَتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأ والعُشبَ الكثيرَ، وكانتْ منها أجادبُ أمسكتِ الماءَ فنفعَ اللَّهُ بها ناسًا فشربُوا ورعَوْا وسقَوْا وزرعُوا، وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأ، فذلك مثل من فقهَ في دِين اللَّهِ ونفعَهُ اللَّه بما بعثَني به ونفعَ به فعَلِمَ وعلَّمَ، ومثلُ من لم يرفعْ بذلكَ رأسًا، ولم يقبلْ هدى اللَّهِ الذي أُرسلتُ به ".