وكذلك نصَّ الإمامُ أحمدُ في - رواية أبي طالبٍ - على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مصعبَ بنَ عميرٍ أن يجمَعِّ بهمْ بالمدينةِ.
ونص أحمدُ - أيضًا - على أنَّ أولَ جمعةِ جمِّعتْ في الإسلامِ هي الجمعة
التي جمعتْ بالمدينةِ مع مصعبِ بنِ عميرٍ.
وقد تقدَّم مثلُه عن عطاءِ والأوزاعيِّ.
فتبينَ بهذا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بإقامةِ الجمُعةِ بالمدينةِ.
ولم يُقمْها بمكةَ، وهذا يدلُّ على أنه كان قد فُرِضَت عليه الجمعةُ بمكةَ.
وممَّن قالَ: إن الجمعةَ فُرضَت بمكةَ قبلَ الهجرةِ: أبو حامدٍ الإسفرايينيُ من
الشافعيةِ، والقاضِي أبو يعلَى في "خلافه الكبير" من أصحابِنا، وابنُ عقيل
في "عمد الأدلةِ"، وكذلك ذكرهَ طائفةٌ من المالكيةِ، منهم: السهيليُّ وغيرُه.
وأما كونُه لم يفعلْه بمكةَ، فيُحمَل أنه إنما أُمرَ بها أنْ يقيمَها في دارِ
الهجرةِ، لا في دارِ الحربِ، وكانت مكةُ إذ ذاكَ دارَ حربِ، ولم يكنِ
المسلمونَ يتمكَّنونَ فيها من إظهارِ دينهم، وكانُوا خائفينَ على أنفسهم.
ولذلك هاجرُوا منها إلى المدينةِ، والجمعةُ تسقطُ بأعذار كثيرة منها الخوفُ
على النفسِ والمالِ، َ وقد أشار بعضُ المتأخرينَ من الشافعيةِ إلى معنًى آخرَ في الامتناع من إقامتِها بمكةَ، وهو: أن الجمعةَ إنما يُقصدُ بإقامتِها إظهارُ شعارِ الإسلامِ، وهذا إنما يُتمكنُ منه في دارِ الإسلامِ.
ولهذا لا تقامُ الجمعةُ في السجنِ، وإن كان فيه أربعونَ، ولا يعلمُ في ذلك
خلافٌ بينَ العلماءِ، وممَّن قالَه: الحسنُ، وابنُ سيرينَ، والنخَعيُّ، والثوريُّ،