وهؤلاءِ همُّهمُ التمتُع بالدنيا، واغتنامُ لذاتها قبلَ الموتِ، كما قال
اللَّهُ تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَروا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأكُلُونَ كَمَا تَاْكلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثوًى لَّهمْ) .
ومن هؤلاءِ منْ كانَ يأمرُ بالزُّهد في الدنيا، لأنَّه يرى أنَّ
الاستكثارَ منها يُوجِبُ الهمَّ والغمَّ، ويقولُ: كلَّما كثُرَ التعلُّقُ بها تألَّمتِ
النَّفسُ بمفارقتِها عندَ الموتِ، فكان هذا غايةَ زُهدهم في الدنيا.
والقسم الثاني: من يُقِرُّ بدارٍ بعد الموتِ للثوابِ والعقابِ، وهم المنتسبونَ إلى
شرائع المرسلينَ، وهم منقسمونَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: ظالمٌ لنفسِهِ، ومقتصدٌ.
وسابق بالخيراتِ بإذنِ اللهِ.
فالظالم لنفسهِ: هم الأكثرونَ منهُم، وأكثرُهم وقفَ مع زهرةِ الدنيا
وزينتِها، فأخذَها من غيرِ وجهِها، واستعمَلَها في غيرِ وجهِهَا، وصارتِ الدنيا أكبرَ همِّه، لها يغضبُ، وبها يرضَى، ولها يُوالي، وعليها يُعادِي، وهؤلاءِ هم أهلُ اللَّهوِ واللَّعبِ والزِّينةِ والتَّفاخرِ والتَّكاثرِ، وكلُّهم لم يعرفِ المقصودَ من الدنيا ولا أنها منزلُ سفرٍ يتزوَّدُ منها لما بعدَها منْ دارِ الإقامةِ، وإن كانَ أحدُهم يؤمن بذلك إيمانًا مجمَلاً فهُوَ لا يعرفُه مفصَّلاً، ولا ذاقَ ما ذاقَهُ أهلُ المعرفة باللَّهِ في الدَّنيا ممَّا هو أنموذجُ ما ادَّخرَ لهم في الآخرة.
والمقتصدُ منهم: أخذَ الدنيا منْ وجوهِهَا المباحةِ، وأدَّى واجباتِهَا، وأمسَكَ
لنفسِهِ الزَّائدَ على الواجبِ يتوسَّعُ به في التمتع بشهواتِ الدنيا، وهؤلاءِ قد
اختُلفَ في دخولِهِم في اسم الزهادة في الدنيا كما سبق ذكرُهُ، ولا عقابَ
عليهم في ذلكَ، إلا أنه ينقصُ من درجاتِهِم من الآخرةِ بقدرِ توسُّعهم في
الدنيا.