الجدل بخير قطّ. وقد قيل: من طلب الدين بالكلام ألحد، ومن تتبّع غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر. وما شاعت هذه الوصيّة جزافا، بل بعد تجربة كرّرها الزمان، وتطاولت عليها الأيام، يتكلم أحدهم في مائة مسألة ويورد مائة حجّة لا ترى عنده خشوعا ولا رقة، ولا تقوى ولا دمعة، وإن كثيرا من الذين لا يكتبون ولا يقرءون ولا يحتجّون ولا يناظرون ولا يكرمون ولا يفضّلون خير من هذه الطائفة وألين جانبا، وأخشع قلبا، وأتقى لله عزّ وجلّ، وأذكر للمعاد، وأيقن بالثواب والعقاب، وأقلق من الهفوة، وألوذ بالله من صغير الذنب، وأرجع إلى الله بالتوبة، ولم أر متكلّما في مدّة عمره بكى خشية، أو دمعت عينه ويتلاقون متخادعين، ويصنّفون متحاملين، جذّ الله عروقهم، واستأصل شأفتهم، وأراح العباد والبلاد منهم، فقد عظمت البلوى بهم، وعظمت آفتهم على صغار الناس وكبارهم، ودبّ داؤهم، وعسر دواؤهم، وأرجو ألا أخرج من الدنيا حتى أرى بنيانهم متضعضعا، وساكنه متجعجعا «١» .
قال: فما تقول في ابن الباقلاني؟ قلت:
فما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الّذي لا تصبحينا «٢»
يزعم أنه ينصر السنّة ويفحم المعتزلة وينشر الرواية، وهو في أضعاف ذلك على مذهب الخرّميّة، وطرائق الملحدة.
قال: والله إن هذا لمن المصائب الكبار والمحن الغلاظ، والأمراض التي ليس لها علاج.
ثم قال: إنّ الليل قد ولّى، والنعاس قد طرق العين عابثا، والرأي أن نستجمّ لننشط، ونستريح لنتعب، وإذا حضرت في الليلة القابلة أخذنا في حديث الخلق والخلق- إن شاء الله- وأنا أزوّدك هذا الإعلام ليكون باعثا لك على أخذ العتاد بعد اختماره في صدرك، وتحيل الحال به عند خوضك وفيضك ولا تجبن جبن الضعفاء، ولكن قل واتّسع مجاهرا بما عندك، منفقا ممّا معك. وانصرفت.