للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والتوزيع الإنساني، فصواب بديهة الفكرة من سلامة العقل، وصواب رويّة الفكرة من صحّة الطباع، وصحّة الطباع من موافقة المزاج، وموافقة المزاج بالمدد الاتّفاقي والاتفاق الغيبيّ، أعني بهذا أن وجه الحادث المجهول عندنا اتفاق، ووجه الحادث المعلوم عند الله عزّ وجلّ غيب، فلو ظهر هذا الغيب لبطل الاتفاق، ولو بطل الاتفاق لارتفع الغيب.

فانقسمت الأحداث بين ما هو على جديلة واحدة معروفة، وبين نادر لا يدوم العهد به، فدلّ ما ظهر واستمرّ على ما جاد به ووهب، ودلّ ما غاب واستتر على ما تفرّد به وغلب.

ولما كان الحيوان كلّه يعمل صنائعه بالإلهام على وتيرة قائمة، وكان الإنسان يتصرّف فيها بالاختيار، صحّ له من الإلهام نصيب حتى يكون رفدا له في اختياره، وكذلك يكون النحل أيضا، صحّ له من الاختيار قسط في إلهامه حتى يكون ذلك معينا في اضطراره، إلّا أن نصيب الإنسان من الإلهام أقلّ كما أن قسط سائر الحيوان من الاختيار أنزر، وثمرة اختيار الإنسان إذا كان معانا بالإلهام أشرف وأدوم وأجدى وأنفع وأبقى وأرفع من ثمرة غيره من الحيوان إذا كان مرفودا بالاختيار، لأنّ قوّة الاختيار في الحيوان كالحلم كما أن قوة الإلهام في الإنسان كالظلّ.

ومراتب الإنسان في العلم ثلاث تظهر في ثلاث أنفس، فأحدهم ملهم فيتعلّم ويعمل، ويصير مبدأ للمقتبسين منه، المقتدين به، الآخذين عنه، الحاذين على مثاله، المارّين على غراره، القافين على آثاره، وواحد يتعلّم ولا يلهم فهو يماثل الأوّل في الدرجة الثانية، أعني التعلّم، وواحد يتعلّم ويلهم، فتجتمع له هاتان الخلّتان، فيصير بقليل ما يتعلّم مكثرا للعمل والعلم بقوّة ما يلهم ويعود بكثرة ما يلهم مصفّيا لكل ما يتعلّم ويعمل.

والكلام في هذه المواضع ربّما جمح فلم يمكن كفّه، فينبغي أن يضح العذر إذا عرض تفاوت في الترتيب، ودخل الخلل من ناحية التقريب.

وقال أبو سليمان لنا في هذه الأيام: الإنسان بين طبيعته وهي عليه وبين نفسه وهي له، كالمنتهب المتوزّع، فإن استمد من العقل نوره وشعاعه قوي ما هو له من النفس، وضعف ما هو عليه من الطبيعة وإلا فقد قوي ما هو عليه من الطبيعة وضعف ما هو له من النفس.

وحكى لنا فقال: كان للحكماء الأوّلين مثل يضربونه ويكتبونه في هياكلهم ومتعبّداتهم وهو: «الملك الموكّل بالدنيا يقول: إنّ ههنا خيرا وههنا شرا، وههنا ما ليس بخير ولا شر، فمن عرف هذه الثلاثة حقّ معرفتها تخلّص منّي، ونجا سليما، وبقي كريما، وملك نعيما عظيما.

<<  <   >  >>