ومن لم يعرفها قتلته شرّ قتلة، وذلك أني لا أقتله قتلا وحيّا «١» يستريح به منّي، ولكن أقتله أوّلا فأوّلا في زمان طويل، بحسرات على فوت مأمول بعد مأمول، وبلايا يكون بها كالمغلول المكبول» .
قال: هذا كلام شريف في أعلى ذروة الحكمة، لكنّك خلّيت يدك من طرف الحديث في الخلق.
قلت: إذا طاب الحديث باسترسال السجيّة ووقوع الطّمأنينة لها الإنسان عن مباديه، وسال مع الخاطر الّذي يستهويه، ولتحفّظ الإنسان في قوله وعمله من الخطل والزّلل حدّ إذا بلغه كلّ الخاطر واختل.
ثم نعود فنقول: أخلاق الإنسان مقسومة على أنفسه الثلاث: أعني النفس الناطقة، والنفس الغضبيّة، والنفس الشهوانيّة، وسمات هذه الأخلاق مختلفة بعرض واسع.
ويمكن أن يقال في نعتها على مذهب التقريب: إنها بين المحمودة وبين المذمومة، وبين المشوبة بالحمد والذمّ، وبين الخارجة منهما. فمن أخلاق النفس الناطقة- إذا صفت- البحث عن الإنسان ثم عن العالم، لأنّه إذا عرف الإنسان فقد عرف العالم الصغير، وإذا عرف العالم فقد عرف الإنسان الكبير، وإذا عرف العالمين عرف الإله الّذي بجوده وجد ما وجد، وبقدرته ثبت ما ثبت، وبحكمته ترتّب ما ترتب، وبمجموع هذا كلّه دام ما دام.
بهذا البحث يتبيّن له ما تشتمل عليه القوة الغضبية والقوّة الشهويّة فإن توابع هاتين القوّتين أكثر، لأنّهما بالتركيب أظهر، وفي الكثرة أدخل وعن الوحدة أخرج، فإذا ساستهما الناطقة حذفت زوائدهما، ونفت فواضلهما ووفّت نواقصهما، وذيّلت قوالصهما أعني إذا رأت غلمة في الشهويّة أخمدت نارها، وإذا وجدت السّرف في الغضبيّة قصّرت عنانها، فحينئذ يقومان على الصراط المستقيم، فيعود السّفه حلما أو تحالما، والحسد غبطة أو تغابطا والغضب كظما أو تكاظما، والغيّ رشدا أو تراشدا، والطيش أناة أو تآنيا وصرّفت هذه الكوامن في المكامن- إذا سارت سورتها، وثارت ثورتها- على مناهج الصواب، تارة بالعظة واللّطف، وتارة بالزّجر والعنف وتارة بالأنفة وكبر النفس، وتارة بإشعار الحذر، وتارة بعلوّ الهمة، وهناك يصير العفو عند القادر ألذّ من الانتقام، والعفاف عند الهائج ألذّ من قضاء الوطر، والقناعة عند المحتاج أشرف من الإسفاف، والصّداقة عند الموتور آثر من العداوة، والمداراة عند المحفظ أطيب من المماراة.
وفي الجملة، الخلق الحسن مشتقّ من الخلق، فكما لا سبيل إلى تبديل الخلق كذلك لا قدرة على تحويل الخلق، لكنّ الحضّ على إصلاح الخلق وتهذيب النفس لم