للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقع من الحكماء بالعبث والتجزيف، بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة.

ومثاله أن الحبشيّ يتدلّك بالماء والغسول لا ليستفيد بياضا، ولكن ليستفيد نقاء شبيها بالبياض. ويقال للمهذار: «اكفف» لا ليكفّ عن النطق، ولكن ليؤثر الصمت.

ويقال للموتور: «لا تحقد» لا ليزول عنه ما حنق عليه، ولكن ليتكلّف الصبر ويتناسى الجزاء على هذا أبدا.

وقد تقرّر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة، أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضدّ أو شبيه بالضدّ كالحياة والموت، والنوم واليقظة، والحسن والقبيح، والصواب والخطأ، والخير والشر، والرجاء والخوف، والعدل والجور، والشجاعة والجبن، والسخاء والبخل، والحلم والسّفه، والطّيش والوقار، والعلم والجهل، والمعرفة والنّكرة والعقل والحمق، والصحة والمرض، والاعتدال والانحراف، والعفّة والفجور والتنبّه والغفلة، والذّكر والنسيان، والذكاء والبلادة، والغبطة والحسادة والدماثة والكزازة، والحق والباطل، والغيّ والرّشد، والبيان والحصر والثقة والارتياب، والطّمأنينة والتّهمة، والحركة والسكون، والشكّ واليقين والخلاعة والوقار، والتوقّي والتهوّر، والإلف والملل، والصدق والكذب والإخلاص والنفاق، والإحسان والإساءة، والنصح والغش، والمدح والذم وعلى هذا الجرّ والسّحب، ولعل هذه الصفات بلا آخر ولا انقطاع.

فما ينبغي أن يعنى الإنسان المحبّ للتبصرة، المؤثر للتذكرة، الجامع للنافع له، النافي للضارّ به في هذه الأحوال التي وصفناها بأسمائها معرّفة- ما استطاع- باجتلاب محمودها واجتناب مذمومها، وتمييزه مما يكمن فيه أو تقليله، أو إطفاء جمرته، أو اجتناء ثمرته، والطريق إلى هذا التمييز واضح قريب، كأن تنظر إلى الحياة والموت فتعلم أنّ هذين ليسا من الأخلاق ولا ممّا يعالج بالاجتهاد، وإلى النّوم واليقظة فتعلم أنّهما ضروريّان للبدن من وجه، وغير ضروريّين من وجه، فتنفي منهما ما خرج عن حدّ الضرورة وتسلم البدن ما دخل في حدّ الضرورة، ولا يكثرنّ الإنسان نومه ولا سهره، ولكن يطلب العدل بينهما بقدر جهده.

فأمّا الحسن والقبيح فلابدّ له من البحث اللطيف عنهما حتى لا يجور فيرى القبيح حسنا والحسن قبيحا، فيأتي القبيح على أنه حسن، ويرفض الحسن على أنّه قبيح، ومناشئ الحسن والقبيح كثيرة: منها طبيعيّ، ومنها بالعادة، ومنها بالشرع، ومنها بالعقل، ومنها بالشهوة، فإذا اعتبر هذه المناشئ صدّق الصادق منها وكذّب الكاذب، وكان استحسانه على قدر ذلك، ومثال ذلك الكبر فإنه معيب بالنظر الأوّل، لكنّه حسن في موضعه بالعلّة الداعية إليه، والحال الموجبة له.

<<  <   >  >>