ولمّا وجب هذا بالحكمة سرت إليه القدرة، وساح به الجود، واشتملت عليه المشيئة، وأحاطت به الحكمة، وشاعت فيه الربوبيّة.
وههنا زيادة في شرح الخلق يتم بها الكلام، فليس من الرأي أن يقع الإخلال بذكرها، لأنّها مكشوفة ظاهرة، وهي أنّ الإنسان إذا غلبت الحرارة عليه في مزاج القلب يكون شجاعا نزالا، ملتهبا، سريع الحركة والغضب قليل الحقد، زكيّ الخاطر، حسن الإدراك.
وإذا غلبت عليه البرودة يكون بليدا، غليظ الطباع، ثقيل الرّوح.
وإذا غلبت عليه الرطوبة يكون ليّن الجانب، سمح النفس، سهل التقبّل كثير النسيان.
وإذا غلبت عليه اليبوسة يكون صابرا، ثابت الرأي، صعب القبول يضبط ويحتدّ، ويمسك ويبخل، وهذا النعت على هذا التنزيل- وإن كان مفهوما- فأسرار الإنسان في أخلاقه كثيرة وخفيّة، وفيها بدائع لا تكاد تنتهي، وعجائب لا تنقضي، وقد قال الأوّل:
كلّ امرئ راجع يوما لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقا إلى حين
وقال آخر:
إرجع إلي خيمك المعروف ديدنه ... إنّ التخلّق يأتي دونه الخلق
ولولا أن النزوع عن الخلق شاقّ لما قالوا: تخلّق فلان.
وقد قيل أيضا:«وخالق الناس بخلق حسن» ، وعلى هذا يجري أمر الضريبة والطبيعة والنّحيتة والغريزة والنّحيزة والسّجيّة والشّيمة، وربما قيل: الطبيعة أيضا، ثم العادة تالية لهذه كلّها، أو زائدة فيما نقص فيها، وموقدة لما خمد منها.