للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رجالات الوزير المقتول، فآثر الاختفاء عن أعين رجال ابن يوسف، وهرب إلى شيراز حيث راح يتردّد على المتصوفة ويعيش معهم. وأخباره خلال تلك الفترة التي ظلّ فيها متخفيا قليلة، ولكن الظاهر أنه كان يعيش في فقر مدقع، بدليل قوله: «لقد غدا شبابي هرما من الفقر، والقبر عندي خير من الفقر» أو قوله: «لقد قال أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما، للحيرة، محتملا للأذى، يائسا من جميع من ترى، متوقعا لما لا بدّ من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص» .

وزاد من حقد التوحيدي على الناس وتشاؤمه من الحياة، ما لاحظه من انصراف الناس عنه، وقسوة الحياة عليه، فلم يلبث أن أحرق ما لديه من مصنفات، ضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته، وأبو حيان يتعلل أيضا بمرضه وشيخوخته خصوصا بعد كل ما قاساه من شظف المعيشة وآلام الحياة، فيقول: «لقد كلّ البصر، وانعقد اللسان، وجمد الخاطر، وذهب البيان، وملك الوسواس، وغلب الياس، من جميع الناس ... ولو علمت في أي حال غلب عليّ ما فعلته، وعند أي مرض، وعلى أية عسرة وفاقة، لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته، واحتججت لي بأكثر ما نشرته وطويته» . وواضح من هذه الكلمات أن أبا حيان يشير إلى حالته النفسية السيئة، فإنه يرى فيها من العذر ما يكفي لتبرير فعلته، فالرجل يشعر بأن هذه الكتب لم تعد تعبّر عن حالته النفسية الراهنة ثم هو يدرك أنها تعبّر عن إخفاقه في الظفر بما كان يأمل من مجد أدبيّ، وهو لهذا وذاك لا يرى داعيا للتمسك بها أو الحرص عليها «١» . هذا إلى أن الشعور بقرب الرحيل قد ولّد في نفس التوحيدي ثورة كبرى على أعزّ ما كان يملك، فلم يتردد في التمرد حتى على كتبه العزيزة التي طالما شاركته حلو الحياة ومرّها! «وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟ هيهات! الرحيل والله قريب، والثواء قليل، والمضجع مقض، والمقام ممض، والطريق مخوف، والمعين ضعيف، والاغترار غالب، والله من وراء هذا كله طالب ... » «٢» .

ولا يعرف ماذا كان من أمر التوحيدي بعد إحراقه لكتبه عام ٤٠٠ هـ. وليس بين أيدينا من المراجع ما يقطع بنوع الحياة أو أسلوب المعيشة الذي عاشه أبو حيان في سنواته الأخيرة. ولئن كان بعض الباحثين قد ظن أنه توفي في مطلع القرن الخامس الهجري، إلا أن الظاهر أن الأجل قد امتد به إلى العام الرابع عشر من القرن الخامس،

<<  <   >  >>