للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك حواره الّذي يحكيه أبو حيان.. فهو يسأل أسئلة عميقة، وينقد الإجابة عنها نقدا قيما» . ولم يكن لدى التوحيدي من اللباقة والكياسة ما يستطيع معه مجالسة الوزراء ومسامرة الكبراء، بدليل ما وصفه به صديقه أبو الوفاء حين قال إنه: «غر لا هيئة له في لقاء الكبراء، ومحاورة الوزراء» ، ومع ذلك فقد وصله أبو الوفاء بابن سعدان، وهيأ له الفرصة للاختلاء بالوزير، والإلقاء إليه بما شاء واختار! وكان أول ما طلبه أبو حيان من الوزير أن يأذن له بتوجيه الخطاب إليه بالكاف والتاء، ليتكلم من غير تكلّف أو كناية أو حرج أو تعريض! ولم يلبث أبو حيان أن اطمأن إلى مجالس الوزير، فكان يتكلم في حضرته بصراحة، ولم يكن يتحرّج في رواية أقذع النوادر والملح، بل كان يبدي رأيه في حاشية الوزير نفسه دون خوف أو خشية! ويبدو أن أبا حيان قد وجد لدى ابن سعدان صدرا رحبا، وأذنا صاغية، ويدا ممدودة، فإننا نراه يكتب إلى الوزير قائلا: «قد شاهدت ناسا في السفر والحضر، صغارا وكبارا وأوساطا، فما شاهدت من يدين بالمجد، ويتحلى بالجود ويرتدي بالعفو، ويتأزر بالحلم ويعطي بالجزاف، ويفرح بالأضياف، ويصل الإسعاف بالإسعاف، والاتحاف بالاتحاف، غيرك. والله إنك لتهب الدرهم والدينار وكأنك غضبان عليهما، وتطعم الصادر والوارد كأن الله قد استخلفك على رزقهما، ثم تتجاوز الذهب والفضة إلى الثياب العزيزة، والخلع النفيسة والخيل العتاق، والمراكب الثقال، والغلمان والجواري، حتى الكتب والدفاتر وما يضن به كل جواد، وما هذا من سجايا البشر، إلا أن يكون فاعل هذا نبيا صادقا، ووليا لله مجتبى.»

وعلى الرغم من أن أبا حيان لم يكن يتردد في مفاتحة الوزير ابن سعدان برأيه في بعض جلسائه، فلم يسلم من تعريضه أناس كابن شاهويه وبهرام بن سعيد وأبي عيسى عليّ بن زرعة النصراني وابن عبيد الكاتب وغيرهم من ندماء ابن سعدان، إلا أن الصلة لم تنقطع تماما بينهما، حتى في الفترة التي اشتدت فيها أعباء الوزارة على ابن سعدان. وإن كان يشكو أحيانا إلى صديقه أبي الوفاء المهندس تغافل الوزير عنه، ويلح في تذكير أبي الوفاء بوعود الوزير، ولكن ليس ما يبرّر القول بانقطاع الصلة بين أبي حيان وابن سعدان، بدليل أن أبا حيان ظل يذكره بالخير حتى بعد وفاته. ولكن يشاء سوء الطالع أن يلاحق التوحيدي إلى النهاية، فقد بقي ابن سعدان في الوزارة مدة قصيرة، إذ ظهر له عام ٣٧٥ (هجرية) خصم لدود هو أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الذي ظل يكيد له وينصب الشباك للإيقاع به، حتى قبض عليه هو وأصحابه وأودعوا السجن. واستوزر صمصام الدولة أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، فوشى بابن سعدان لديه وأدخل في روعه أن ابن سعدان يؤلّب الثوار عليه، فأمر صمصام الدولة بقتله، والتنكيل بأعوانه، وكان ذلك في نهاية عام ٣٧٥ هـ.

ويبدو أن أبا حيان قد خشي أن يلاحقه أعوان الوزير الجديد، لأنه كان من

<<  <   >  >>