قيل له: إن أبا زيد قد عمل كتابا في أخلاق الأمم. قال: قد رأيته وقرأته وقد أفاد، وكلّ من تكلم على طريقة الحكماء الّذين يتوخّون من الأمور لبابها، ويصرفون عنها قشورها، فله السابقة والتقدّم على من يخبط كفلان وفلان.
ومن جحد بلاغة العرب في الخطابة وجولانها كلّ مجال وتميّزها باللسان فقد كابر.
ومن أنكر تقدّم يونان في إثارة المعاني من أماكنها وإقامة الصناعات بأسرها، وبحثها عن العالم الأعلى والأوسط والأسفل فقد بهت.
ومن دفع مزيّة الفرس في سياستها وتدبيراتها وترتيب الخاصّة والعامّة بحقّ ما لها وعليها فقد عاند.
وهكذا من دفع ما للهند.
فليس من شخص وإن كان زريّا قميئا إلّا وفيه سرّ كامن لا يشركه فيه أحد، وإذا كان هذا في شخص على ما قلنا، فكيف إذا نظرت إلى ما يحويه النوع. وهكذا إذا ارتقيت إلى الجنس، وهذا لأن عرض الجنس أوسع من عرض النوع، كما أن عرض النوع أوسع من عرض الشخص، وليس دون الشخص تحت، كما أنه ليس فوق الجنس فوق. وأما انقسام هذه الثلاثة على هذا فليكون فضاء العالم غاصّا بالطّرف والوسط والأفق وليكون سحّا بالغا من المصدر إلى المورد.
وعلى هذا لولا الجنس لم يوجد نوع، ولولا النوع لم يوجد شخص.
وكذلك العكس.
قال أبو سعيد الطبيب: أللعالم العلويّ أجناس وأنواع وأشخاص؟
قال: كيف يخلو العالم العلويّ من هذا التقسيم، وإنما هذا الذي لحقنا في العالم السّفلي حكاية ذلك العالم العلويّ حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة.
فقال له مستزيدا: فهل في البسائط الإلهيّة أجناس وأنواع وأشخاص؟
فقال: لا، إلا أنّ يتخذ شيء من هنالك قراره في معارض العالم السّفليّ بقوّة العالم العلويّ، وذلك كالبرق إذا خطف، والنسيم إذا لطف.
قال: فهل ينال البسائط نقص بالإخبار بالأجزاء المركبة عنها كما ينال المركّبات كمال بالأجزاء البسيطة عنها؟
فقال، لا، لأنّ ما علا يؤثّر ولا يقبل التأثير، وما سفل يتأثّر. ألا ترى أنّ ما علا من الكواكب لا يتّصل بشيء دونه، وما سفل منها يتصل بما علا عنه.
وقال له أيضا: إذا قلنا: الرّوحانيّات، فماذا ينبغي أن يلحظ منها؟
فقال: الروحانيات على أقسام، فقسم منها متبدّد في المركّبات من الحيوان والجماد، وقسم منها مكتنف للحيوان والجماد، وبحسب هذا الاكتناف هو أبسط وألطف من القسم الأوّل المتبدّد، وقسم منها فوق القسم المكتنف، وهو الّذي منه