المعنى الذي هو فوق العيان، أمسك وانتهى، ووقف واستغنى لا لعرض ظلام غشيه، ولكن لسلطان شعاع ملكه، لأن ذلك النور محيط بكل شيء دونه، ومستول على كلّ شيء تحته.
وكان يقول في هذا الفنّ إذا جدّ به الكلام وبدا منه المكتوم وشرد عنه الخاطر، ما لا يوعى بحفظ، ولا يروى بلفظ.
وإنما كان أصحابنا ينتظرون منثوره بهذه الحروف لفظا لينظموا منه شذرا وعقدا، وكانوا إذا تلاقوا اشتركوا في تقويم ذلك كلّه، وتعاونوا على تحبيره، وتصادقوا على مفهومهم منه، وتجنّبوا المنازعة والشغب عليه، وأخذوا بالعفو والممكن منه، لئلّا يفوتهم المعنى، ولا يتحيّرون في المنتهى.
وسأله الأندلسي في هذا المجلس عن الأمم وأحوالها، ونقصها وكمالها.
فقال: اشتركت الأمم في جميع الخيرات والشرور، وفي جميع المعاني والأمور، اشتراكا أتى على أول التفاوت ووسطه وآخره، ثم استبدّت كلّ أمة بقوالب ليست لأختها، واشتراكهم فيها كالأصول واستبدادهم كالفروع، وفيما اشتركوا فيه المحمود والمذموم.
ولم يجز في الحكمة الإلهية غير هذه القسمة، لأن الاشتراك لو سبق بلا تفاوت لم يكن اشتراكا، والتقاسم لو عري من الاتفاق لم يكن تقاسما، فصار ما من أجله يفترقون، به يجتمعون، وما من أجله ينتظمون، به ينتثرون.
فعلى هذا اشتركوا في الأخلاق واللّغات، والعقائد والصناعات، وجرّ المنافع ودفع المضارّ، مع اختلافهم فيها بنوع ونوع.
ألا ترى أنّ لغة الهند غير لغة الروم، وكذلك الصناعة والعقيدة وما يجري مجراهما، إلا أنّهم مع هذه الأصول والقواعد تقاسموا أشياء بين الفطرة والتنبيه، وبين الاختيار والتقدمة، فصار الاستنباط والغوص والتنقير والبحث والاستكشاف والاستقصاء والفكر ليونان. والوهم والحدس والظن والحيلة والتحيّل والشعبذة للهند.
والحصافة واللفظ والاستعارة والإيجاز والاتساع والتصريف والسّحر باللسان للعرب، والرويّة والأدب والسياسة والأمن والترتيب والرسوم والعبوديّة والرّبوبيّة للفرس.
فأمّا التّرك فلها الشجاعة. والعرب تشاركها إما بالزيادة وإما بالمساواة، وليس للترك بعد هذا حظّ ولا دراية إلّا بقسط من الظلّ من الشخص.
والعرب مع منطقها البارع لها المزيّة المعروفة على الترك بعد في السياسة وإن كانت قاصرة، وأمّا الزّنج والسودان فغلبت عليها الفسولة وشاكلت البهائم الضعيفة، كما شاكلت الترك السّباع القويّة.