قلت: قد رأيت جملة منها، وهي مبثوثة من كلّ فنّ نتفا بلا إشباع ولا كفاية، وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات وقد غرق الصّواب فيها لغلبة الخطأ عليها.
وحملت عدّة منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقيّ السّجستانيّ (محمد بن بهرام) وعرضتها عليه ونظر فيها أياما واختبرها طويلا، ثم ردّها عليّ وقال: تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنّوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفوا «١» ، ظنّ ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع، ظنّوا أنهم يمكنهم أن يدسّوا الفلسفة- التي هي علم النّجوم والأفلاك والمجسطي والمقادير وآثار الطّبيعة، والموسيقي التي هي معرفة النّغم والإيقاعات والنّقرات والأوزان، والمنطق الّذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكمّيّات والكيفيّات- في الشريعة، وأن يضمّوا الشريعة للفلسفة.
وهذا مرام دونه حدد «٢» ، وقد توفّر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحدّ أنيابا، وأحضر أسبابا، وأعظم أقدارا، وأرفع أخطارا، وأوسع قوىّ، وأوثق عرا، فلم يتمّ لهم ما أرادوه، ولا بلغوا منه ما أمّلوه، وحصلوا على لوثات قبيحة، ولطخات فاضحة، وألقاب موحشة، وعواقب مخزية، وأوزار مثقلة.
فقال له البخاريّ أبو العبّاس: ولم ذلك أيها الشيخ؟
قال: إنّ الشريعة مأخوذة عن الله- عزّ وجلّ- بوساطة السّفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي، وباب المناجاة، وشهادة الآيات، وظهور المعجزات، على ما يوجبه العقل تارة، ويجوّزه تارة، لمصالح عامّة متقنة، ومراشد تامّة مبيّنة، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه، والغوص فيه، ولابدّ من التّسليم للداعي إليه، والمنبّه عليه، وهناك يسقط (لم) ويبطل (كيف) ، ويزول (هلّا) ويذهب (لو) و (ليت) في الرّيح، لأنّ هذه الموادّ عنها محسومة، واعتراضات المعترضين عليها مردودة، وارتياب المرتابين فيها ضارّ، وسكون الساكنين إليها نافع، وجملتها مشتملة على الخير، وتفصيلها موصول بها على حسن التّقبّل، وهي متداولة بين متعلّق بظاهر مكشوف، ومحتجّ بتأويل معروف، وناصر باللغة الشائعة، وحام بالجدل المبين، وذابّ بالعمل الصالح، وضارب للمثل السائر، وراجع إلى البرهان الواضح، ومتفقّه في الحلال والحرام، ومستند إلى الأثر والخبر المشهورين بين أهل الملّة، وراجع إلى اتفاق الأمّة.
وأساسها على الورع والتّقوى، ومنتهاها إلى العبادة وطلب الزّلفى.