للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قيل له: كفاك تماديا في هذا الرأي أنه ليس لك فيه موافق، ولا عليه مطابق، ولو استقلّ إنسان واحد بعقله في جميع حالاته في دينه ودنياه لاستقلّ أيضا بقوته في جميع حاجاته في دينه ودنياه، ولكان وحده يفي بجميع الصّناعات والمعارف، وكان لا يحتاج إلى أحد من نوعه وجنسه، وهذا قول مرذول ورأي ى مخذول.

قال البخاريّ: وقد اختلفت أيضا درجات النبوة بالوحي، وإذا ساغ هذا الاختلاف في الوحي ولم يكن ذلك ثالما له، ساغ أيضا في العقل ولم يكن مؤثّرا فيه.

فقال: يا هذا، اختلاف درجات أصحاب الوحي لم يخرجهم عن الثّقة والطّمأنينة بمن اصطفاهم بالوحي، وخصّهم بالمناجاة، واجتباهم للرسالة، وأكملهم بما ألبسهم من شعار النبوة، وهذه الثّقة والطّمأنينة مفقودتان في الناظرين بالعقول المختلفة، لأنهم على بعد من الثّقة والطّمأنينة إلّا في الشيء القليل والنّزر اليسير، وعوار هذا الكلام ظاهر، وخطل هذا المتكلّم بيّن.

قال الوزير: أفما سمع شيئا من هذا المقدسيّ؟

قلت: بلى قد ألقيت إليه هذا وما أشبهه بالزّيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، في أوقات كثيرة بحضرة حمزة الورّاق في الورّاقين، فسكت، وما رآني أهلا للجواب، لكن الجريريّ غلام ابن طرّارة هيّجه يوما في الورّاقين بمثل هذا الكلام، فاندفع فقال:

الشريعة طبّ المرضى، والفلسفة طبّ الأصحّاء، والأنبياء يطبّون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصّحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلا، فبين مدبّر المريض ومدبّر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف، لأن غاية مدبّر المريض أن ينتقل به إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجعا، والطّبع قابلا، والطبيب ناصحا. وغاية مدبّر الصحيح أن يحفظ الصحّة، وإذا حفظ الصحّة فقد أفاده كسب الفضائل، وفرّغه لها، وعرّضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائز بالسعادة العظمى، ومتبوّئ الدرجة العليا، وقد صار مستحقّا للحياة الإلهيّة، والحياة الإلهية من الخلود والدّيمومة والسّرمدية.

فإن كسب من يبرأ من المرض بطبّ صاحبه الفضائل أيضا، فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل، لأنّ إحداهما تقليديّة، والأخرى برهانيّة، وهذه مظنونة، وهذه مستيقنة، وهذه روحانيّة، وهذه جسميّة، وهذه دهريّة، وهذه زمانيّة.

وقال أيضا: إنّما جمعنا بين الفلسفة والشّريعة لأن الفلسفة معترفة بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدة لها، وإنما جمعنا أيضا بينهما لأنّ الشريعة عامة، والفلسفة خاصّة، والعامّة قوامها بالخاصّة، كما أن الخاصّة تمامها بالعامّة، وهما متطابقتان إحداهما على الأخرى، لأنها كالظّهارة التي لابدّ لها من البطانة، وكالبطانة التي لابدّ لها من الظّهارة.

<<  <   >  >>