«لو أنّ الله حبس عن الناس القطر سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة به كافرين ويقولون: مطرنا بنوء المجدح» ، فهذا كما ترى، والمجدح: الدّبران.
ثم قال: ولقد اختلفت الأمّة ضروبا من الاختلاف في الأصول والفروع، وتنازعوا فيها فنونا من التنازع في الواضح والمشكل من الأحكام، والحلال والحرام، والتفسير والتأويل، والعيان والخبر، والعادة والاصطلاح، فما فزعوا في شيء من ذلك إلى منجّم ولا طبيب ولا منطقيّ ولا مهندس ولا موسيقيّ ولا صاحب عزيمة وشعبذة وسحر وكيمياء، لأنّ الله تعالى تمّم الدين بنبيه صلّى الله عليه وسلّم، ولم يحوجه بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيان موضوع بالرأي.
قال: وكما لم نجد في هذه الأمّة من يفزع إلى أصحاب الفلسفة في شيء من دينها، فكذلك أمّة عيسى عليه السّلام وهي النصارى، وكذلك المجوس.
قال: ومما يزيدك وضوحا ويريك عجبا أنّ الأمّة اختلفت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافا فيها وفرقا، كالمرجئة والمعتزلة والشّيعة والسّنّيّة والخوارج، فما فزعت طائفة من هذه الطوائف إلى الفلاسفة، ولا حققت مقالتها بشواهدهم وشهادتهم، ولا اشتغلت بطريقتهم، ولا وجدت عندهم ما لم يكن عندها بكتاب ربّها وأثر نبيّها.
وهكذا الفقهاء الذين اختلفوا في الأحكام من الحلال والحرام منذ أيّام الصّدر الأوّل إلى يومنا هذا لم نجدهم تظاهروا بالفلاسفة فاستنصروهم، ولا قالوا لهم:
أعينونا بما عندكم، واشهدوا لنا أو علينا بما قبلكم.
قال: فأين الدّين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ بالوحي النّازل، من الشيء المأخوذ بالرّأي الزائل؟
فإذا أدلّوا بالعقل فالعقل موهبة من الله جلّ وعزّ لكلّ عبد، ولكن بقدر ما يدرك به ما يعلوه، كما لا يخفى به عليه ما يتلوه، وليس كذلك الوحي، فإنه على نوره المنتشر، وبيانه الميسّر.
قال: وبالجملة، النّبيّ فوق الفيلسوف، والفيلسوف دون النبيّ، وعلى الفيلسوف أن يتّبع النبيّ، وليس على النبيّ أن يتّبع الفيلسوف، لأنّ النبيّ مبعوث، والفيلسوف مبعوث إليه.
قال: ولو كان العقل يكتفى به لم يكن للوحي فائدة ولا غناء، على أن منازل الناس متفاوتة في العقل، وأنصباؤهم مختلفة فيه، فلو كنّا نستغني عن الوحي بالعقل كيف كنّا نصنع، وليس العقل بأسره لواحد منّا، وإنما هو لجميع الناس.
فإن قال قائل بالعبث والجهل: كلّ عاقل موكول إلى قدر عقله، وليس عليه أن يستفيد الزيادة من غيره، لأنّه مكفيّ به، وغيره مطالب بما زاد عليه.