الفلسفة قد حثّت على قبول الشريعة، ونهت عن مخالفتها، وسمّتها بالناموس الحافظ لصلاح العالم.
ثم قال الجريريّ: حدّثني أيها الشّيخ: على أيّ شريعة دلّت الفلسفة؟ أعلى اليهوديّة، أم على النصرانيّة، أم على المجوسيّة، أم على الإسلام، أم على ما عليه الصابئون؟ فإن هاهنا من يتفلسف وهو نصرانيّ كابن زرعة وابن خمار وأمثالهما، وهاهنا من يتفلسف وهو يهوديّ، كأبي الخير بن يعيش، وهاهنا من يتفلسف وهو مسلم، كأبي سليمان والنوشجانيّ وغيرهما، أفتقول إن الفلسفة أباحت لكل طائفة من هذه الطّوائف أن تدين بذلك الدين الذي نشأت عليه؟ ودع هذا ليخاطب غيرك، فإنّك من أهل الإسلام بالهدي والجبلّة والمنشإ والوراثة، فما بالنا لا نرى واحدا منكم يقوم بأركان الدّين، ويتقيّد بالكتاب والسّنة يراعي معالم الفريضة ووظائف النافلة؟ وأين كان الصّدر الأوّل من الفلسفة؟ أعني الصّحابة، وأين كان التابعون منها؟ ولم خفي هذا الأمر العظيم- مع ما فيه من الفوز والنعيم- على الجماعة الأولى والثانية والثالثة إلى يومنا هذا وفيهم الفقهاء والزّهّاد والعباد وأصحاب الورع والتّقى، والناظرين في الدّقيق ودقيق الدقيق وكلّ ما عاد بخير عاجل وثواب آجل، هيهات لقد أسررتم الحسو في الارتغاء «١» واستقيتم بلا دلو ولا رشاء، ودللتم على فسولتكم وضعف منّتكم وأردتم أن تقيموا ما وضعه الله، وتضعوا ما رفعه الله، والله لا يغالب، بل هو غالب على أمره، فعّال لما يريد.
قد حاول هذا الكيد خلق في القديم والحديث، فنكصوا على أعقابهم خائبين، وكبّوا لوجوههم خاسرين، منهم أبو زيد البلخيّ، فإنه ادّعى أنّ الفلسفة مقاودة للشّريعة «٢» ، والشريعة مشاكلة للفلسفة، وأن إحداهما أمّ والأخرى ظئر، وأظهر مذهب الزّيديّة، وانقاد لأمير خراسان الذي كتب له أن يعمل في نشر الفلسفة بشفاعة الشريعة، ويدعو الناس إليها باللّطف والشفقة والرّغبة، فشتّت الله كلمته، وقوّض دعامته، وحال بينه وبين إرادته، ووكله إلى حوله وقوّته، فلم يتمّ له من ذلك شيء.
وكذلك رام أبو تمام النّيسابوريّ، وخدم الطائفة المعروفة بالشّيعيّة ولجأ إلى مطرّف بن محمد وزير مرداويج الجيلي ليكون له به قوّة، وينطق بما في نفسه من هذه الجملة، فما زادته إلا صغرا في قدره، ومهانة في نفسه، وتواريا في بيته.
وهذا بعينه قصد العامريّ فما زال مطرودا من صقع إلى صقع ينذر دمه ويرتصد