أعني لا يجحد ما ألقى إليه صاحب الشّريعة مجملا ومفصّلا، ولا يغفل عمّا استخزن الله تعالى هذا الخلق العظيم على ما ظهر بقدرته، واشتمل بحكمته، واستقام بمشيئته، وانتظم بإرادته واستتمّ بعلمه، ولا يعترض على ما يبعد في عقله ورأيه من الشّريعة، وبدائع آيات النّبوّة بأحكام الفلسفة، فإنّ الفلسفة مأخوذة من العقل المقصور على الغاية، والدّيانة مأخوذة من الوحي الوارد من العلم بالقدرة.
قال: ولعمري إنّ هذا صعب، ولكنه جماع الكلام، وأخذ المستطاع، وغاية ما عرض له الإنسان المؤيّد باللّطائف، المزاح بالعلل وبضروب التّكاليف.
قال: ومن فضل نعمة الله تعالى على هذا الخلق أنه نهج لهم سبيلين ونصب لهم علمين، وأبان لهم نجدين «١» ليصلوا إلى دار رضوانه إما بسلوكهما وإما بسلوك أحدهما.
فقال له البخاري: فهلّا دلّ الله على الطريقين اللذين رسمتهما في هذا المكان؟
قال: دلّ وبيّن، ولكنك عم، أما قال: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ
[العنكبوت: ٤٣] وفي فحوى هذا وما يعلمها إلّا العالمون؟ فقد وصل العقل بالعلم، كما وصل العلم بالعقل، لأنّ كمال الإنسان بهما، ألا ترى أن العاقل متى عرّي من العلم قلّ انتفاعه بعقله؟ كذلك العالم متى خلّي من العقل بطل انتفاعه بعلمه، أما قال:
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ
؟ [البقرة: ٢٦٩] أما قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ
؟
[الحشر: ٢] أما قال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
؟ [النساء: ٨٢] أما ذمّ قوما حين قال:
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ
؟ [الروم: ٧] أفما قال: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها
! [الأنعام: ١٨] أما قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ
؟ [يوسف: ١٠٥] أما قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
؟ [ق: ٣٧] وكتاب الله عزّ وجلّ محيط بهذا كلّه، وإنما تقاد إلى طاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذا فيما لا يناله عقلك، ولا يبلغه ذهنك، ولا يعلو إليه فكرك، فأمرك باتّباعه والتّسليم له، وإنما دخلت الآفة من قوم دهريّين ملحدين ركبوا مطية الجدل والجهل، ومالوا إلى الشّغب بالتعصّب، وقابلوا الأمور بتحسينهم وتقبيحهم وتهجينهم، وجهلوا أنّ وراء ذلك ما يفوت ذرعهم، ويتخلّف عن لحاقه رأيهم ونظرهم، ويعمى دون كنه ذلك بصرهم، وهذه الطائفة معروفة، منهم صالح بن عبد القدّوس، وابن أبي العوجاء، ومطر بن أبي الغيث، وابن الرّاوندي، والصّيمريّ، فإن هؤلاء طاحوا في أودية الضّلالة، واستجرّوا إلى جهلهم أصحاب الخلاعة والمجانة.