للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال البخاريّ: فما الذي تركت بهذا الوصف للّذين جمعوا بين الفلسفة والديانة، ووصلوا هذه بهذه على طريق الظاهر والباطن، والخفيّ والجليّ، والبادي والمكتوم؟

قال: تركت لهم الطّويل العريض، القوم زعموا أن الفلسفة مواطئة للشّريعة، والشّريعة موافقة للفلسفة، ولا فرق بين قول القائل: قال النبيّ، وقال الحكيم، وأنّ أفلاطن ما وضع كتاب النّواميس إلّا لنعلم كيف نقول؟ وبأيّ شيء نبحث، وما الذي نقدّم ونؤخّر، وأن النّبوة فرع من فروع الفلسفة، وأن الفلسفة أصل علم العالم، وأنّ النبيّ محتاج إلى تتميم ما يأتي به من جهة الحكيم، والحكيم، والحكيم غنيّ عنه، هذا وما أشبهه، وأنّ صاحب الدّين له أن يعيّن ويورّي ويشير ويكنّي حتّى تتمّ المصلحة، وتنتظم الكلمة، وتتفق الجماعة، وتثبت السّنّة، وتحلوا المعيشة، وحتى قال قائل منهم: «أوائل الشريعة أمور مبتدعة، ووسائطها سنن متّبعة، وأواخرها حقوق منتزعه» وأين هذا النّعت من قولي: «إنّ الشريعة إلهية، والفلسفة بشرية» ، أعني أنّ تلك بالوحي، وهذه بالعقل، وأنّ تلك موثوق بها ومطمأنّ إليها، وهذه مشكوك فيها مضطرب عليها.

قال له البخاريّ: فلم لم ينهج صاحب الشّريعة هذه الطريق، وكان يزول هذا الخصام، وينتفي هذا الظّن، وتكسد هذه السّوق؟

فقال: إن صاحب الشّريعة مستغرق بالنور الإلهيّ، فهو محبوس على ما يراه ويبصره، ويجده وينظره، لأنّه مأخوذ بما شهده بالعيان وأدركه بالحسّ وناله بوديعة الصّدر عن كل ما عداه، فلهذا يدعو إلى اقتباس كماله الذي حصل له، ولا يسعد بدعوته إلا من وفّق لإجابته، وأذعن لطاعته، واهتدى بكلمته، والفلسفة كمال بشريّ، والدين كمال إلهيّ، والكمال الإلهيّ غنيّ عن الكمال البشريّ، والكمال البشري فقير إلى الكمال الإلهيّ، فهذا هذا، وما أمر الله عزّ وجلّ بالاعتبار، ولا حثّ على التدبّر، ولا حرّك القلوب إلى الاستنباط، ولا حبّب إلى القلوب البحث في طلب المكنونات، إلا ليكون عباده حكماء ألبّاء أتقياء أذكياء، ولا أمر بالتّسليم ولا حظر الغلوّ والإفراط في التّعمّق إلا ليكون عباده لاجئين إليه متوكّلين عليه، معتصمين به، خائفين منه، راجين له، يدعونه خوفا وطمعا، ويعبدونه رغبا ورهبا، فبيّن ما بيّن حرصا على معرفته وعبادته، وطاعته وخدمته، وأخفى ما أخفى لتدوم حاجتهم إليه، ولا يقع الغنى عنه، وبالحاجة يقع الخضوع والتجرّد، وبالاستغناء يعرض التّجبّر والتمرّد، وهذه أمور جارية بالعادة، وثابتة بالسّيرة الجائرة والعادلة، ولا سبيل إلى دفعها ورفعها وإنكارها وجحدها، فلهذا لزم كلّ من أدرك بعقله شيئا أن يتمّم نقصه بما يجده عند من أدرك ما أدرك بوحي من ربّه.

<<  <   >  >>