فقال- حرس الله نفسه-: ما أكثر رونق هذا الكلام! وما أعلى رتبته في كنه العقل! اكتبه لنا، بل اجمع لي جزءا لطيفا من هذه الفقر، فإنّها تروّح العقل في الفينة بعد الفينة، فإنّ نور العقل ليس يشعّ في كلّ وقت، بل يشعّ ويبرق مرّة، فإذا شعّ عمّ نفعه، وإذا برق خصّ نفعه وإذا خفي بطل نفعه.
قلت: أفعل. فقال: إن كان معك شيء آخر فاذكره، فإنّ الحديث الحسن لا يملّ، وما أحسن ما قال خالد بن صفوان، فإنّه قيل له: أتملّ الحديث؟ قال: إنّما يملّ العتيق. قال: صدق خالد، إنّ الحديث لا يملّ من الزّمان إلا فيما يليه، وإلّا فكيف يملّ في أوّل زمانه وفاتحة أوانه، وإنّما الملل يعرض بتكرّر الزّمان وضجر الحسّ ونزاع الطّبع إلى الجديد، ولهذا قيل: لكل جديد لذّة.
فحكيت أنّه لمّا تقلّد كسرى أنوشروان مملكته عكف على الصّبوح والغبوق، فكتب إليه وزيره رقعة يقول فيها: إنّ في إدمان الملك ضررا على الرّعيّة، والوجه تخفيف ذلك والنّظر في أمور المملكة. فوقّع على ظهر الرّقعة بالفارسيّة بما ترجمته:
يا هذا، إذا كانت سبلنا آمنة، وسيرتنا عادلة، والدّنيا باستقامتنا عامرة، وعمّالنا بالحق عاملة، فلم نمنع فرحة عاجلة؟
قال: من حدّثك بهذا؟ قلت: أبو سليمان شيخنا، قال: فكيف كان رضاه عن هذا الملك في هذا القول؟
فقلت: اعترض فقال أخطأ من وجوه، أحدها أن الإدمان إفراط، والإفراط مذموم، والآخر أنّه جهل أنّ أمن السّبيل وعدل السّيرة وعمارة الدنيا والعمل بالحقّ متى لم يوكّل بها الطّرف السّاهر ولم تحط بالعناية التامّة، ولم تحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النّظام، دبّ إليها النّقص والنّقض باب للانتقاض، مزعزع للدّعامة.
والآخر أنّ الزّمان أعزّ من أن يبذل في الأكل والشّرب والتلذّذ والتّمتّع، فإن في تكميل النفس الناطقة باكتساب الرّشد لها وإبعاد الغيّ عنها ما يستوعب أضعاف العمر، فكيف إذا كان العمر قصيرا، وكان ما يدعو إليه الهوى كبيرا؟! والآخر أنّه ذهب عليه أنّ الخاصّة والعامّة إذا وقفت على استهتار الملك باللّذات، وانهماكه في طلب الشهوات، ازدرته واستهانت به، وحدّثت عنه بأخلاق الخنازير وعادات الحمير، واستهانة الخاصّة والعامّة بالنّاظر في أمرها والقيّم بشأنها متى تكرّرت على القلوب تطرّقت إلى اللسان، وانتشرت في المحافل، والتفت بها بعضهم إلى بعض وهذه مكسرة للهيبة، وقلّة الهيبة رافعة للحشمة، وارتفاع الحشمة باعث على الوثبة، والوثبة غير مأمونة من الهلكة، وما خلا الملك من طامع راصد قطّ وليس ينبغي للملك الحازم أن يظنّ أنّه لا ضدّ له ولا منازع، وقد ينجم الضدّ والمنازع