من حيث لا يحتسب، وما أكثر خجل الواثق! وما أقلّ حزم الوامق! وما أقلّ يقظة المائق «١» ! ثم قال: وعلى الضّدّ متى كان السائس ذا تحفّظ وبحث، وتتبّع وحزم وإكباب على لمّ الشّعث وتقويم الأود وسدّ الخلل وتعرّف المجهول وتحقّق المعلوم ورفع المنكر وبثّ المعروف، احترست منه العامّة والخاصّة، واستشعرت الهيبة، والتزمت بينها النّصفة، وكفيت كثيرا من معاناتها ومراعاتها، وإن كان للدّولة راصد للغرة يئس من نفوذ الحيلة فيها، لأنّ اللّصّ إذا رأى مكانا حصينا وعهد عليه حرّاسا لم يحدّث نفسه بالتعرض له، وإنما يقصد قصرا فيه ثلمة، وبابا إليه طريق، والأعراض بالأسباب، وإذا ضعف السّبب ضعف العرض، وإذا انقطع السّبب انقطع العرض.
فقال- أدام الله أيامه-: هذا كلام كاف شاف. وقال بعد ذلك: حدّثني عما تسمع من العامة في حديثنا.
قلت: سمعت (بباب الطّاق) قوما يقولون: اجتمع الناس اليوم على الشّطّ، فلما نزل الوزير ليركب المركب صاحوا وضجوا وذكروا غلاء القوت وعوز الطعام وتعذر الكسب وغلبة الفقر وتهتّك صاحب العيال، وأنّه أجابهم بجواب مرّ مع قطوب الوجه وإظهار التبرم بالاستغاثة: بعد لم تأكلوا النّخالة.
فقال: والله ما قلت هذا، ولا خطر لي على بال، ولم أقابل عامّة جاهلة ضعيفة جائعة بمثل هذه الكلمة الخشناء، وهذا يقوله من طرح الشّرّ وأحبّ الفساد وقصد التّشنيع عليّ والإيحاش منّي، وهو هذا العدوّ الكلب، «يعني ابن يوسف» كفاني الله شرّه، وشغله بنفسه، ونكّس كيده على رأسه، والله لأنظرنّ لها وللفقراء بمال أطلقه من الخزانة، وأرسم ببيع الخبز ثمانية بدرهم، ويصل ذلك إلى الفقراء في كل محلّة على ما يذكر شيخها، ويبيع الباقون على السّعر الذي يقوّم لهم، ويشتريه الغنيّ الواجد، ففعل ذلك- أحسن الله جزاءه- على ما عرفت وشاهدت، وأبلغته بنشر الدعاء له في الجوامع والمجامع بطول البقاء ودوام العلاء وكبت الأعداء ونصر الأولياء.
ثم كتبت جزءا من الفقر على ما رسم من قبل، فلمّا أوصلته إليه قال لي: اقرأ، فقرأته عليه، فقال: صل هذا الجزء بجزء آخر من حديث النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- والصحابة وبجزء من الشّعر، وبشيء من معاني القرآن، فإنّه متقدّم على كل شيء بحسب ما رفع الله من خطره، وأحوج إلى فهمه، وندب إلى العمل به، وأثاب على التفكّر فيه والتعجّب منه.