وفي كل واحد منها قوّة مميّزة بها يتم عمله، فالتي في الدّماغ هي العقل المميّز الحارس للبدن، ومنه ينبعث الحسّ والحركة، والتي في القلب تنبعث منها الحرارة الغريزية في جميع البدن، وزعموا أن تلك الحرارة هي الرّوح، والّتي في الكبد هي موضع الهضم والنضج، وهي التي تنضج الطعام وتغيره وتحيله دما وتوزّع في كلّ عضو ما هو ملائم له، وبالجاذبة تجذب، وبالحابسة تحبس، وبالهاضمة تهضم، وبالدّافعة تدفع.
فأما الدّماغ فينقسم ثلاثة أقسام يحجز بينها أغشية، أحدها في مقدّم الرأس موضع التخيّل، والثاني في وسط الرأس موضع العقل والفكر والتمييز، والثالث في مؤخّر الرأس موضع الحفظ والذّكر والقبول، فكلّ واحد مما ذكرنا يخدم الآخر، وإن ضعف أحدها ضعف لضعفه الآخر، وباعتدالهنّ وسلامتهنّ قوام البدن والنّفس.
ولكلّ واحد منها آلة بها يستعين على خدمة الآخر.
قال: فكما أن الرّحى إذا نقصت شيئا منها أو زدت أفسد الطحن، إمّا بزيادة أو نقصان، كذلك سائر خدمه وآلاته.
وقال: النار تحرق، فإذا كانت موجودة فالدّخان والرّماد موجودان، والدّخان رماد لطيف، والرّماد دخان كثيف.
وقال أبو سليمان: ذكر بعض البحّاثين عن الإنسان أنّه جامع لكلّ ما تفرّق في جميع الحيوان، ثم زاد عليها وفضّل بثلاث خصال: بالعقل والنظر في الأمور النافعة والضّارّة، وبالمنطق لإبراز ما استفاد من العقل بوساطة النظر، وبالأيدي لإقامة الصّناعات وإبراز الصّور فيها مماثلة لما في الطبيعة بقوّة النفس.
ولمّا انتظم له هذا كلّه جمع الحيل والطّلب والهرب والمكايد والحذر، وهذا بدل السّرعة والخفّة التي في الحيوان، واتخذ بيده السلاح مكان الناب والمخلب والقرن، واتّخذ الجنن لتكون وقاية من الآفات، والعقل ينبوع العلم، والطبيعة ينبوع الصّناعات، والفكر بينهما قابل منهما، مؤدّ من بعض إلى بعض، فصواب بديهة الفكر من صحّة العقل، وصواب روّية الفكر من صحّة الطباع.
وقال أبو العباس: الناس في العلم على ثلاث درجات، فواحد يلهم فيعلّم فيصير مبدأ، والآخر يتعلّم ولا يلهم فهو يؤدّي ما قد حفظ، والآخر يجمع له بين أن يلهم وأن يتعلم. فيكون بقليل ما يتعلّم مكثرا بقوّة ما يلهم.