والخوض في هذا الطّرف قديم، وفضله في الحقّ شاقّ، والتنازع فيه قائم، والظّنّ يعمل عمله، واليقين غير مظفور به، ولا موصول إليه، والطبيعة قد أولعت الناس بادّعاء الغرائب، وبعثتهم على نصرتها بالرّفق والخرق، والتسهيل واللّجاج، والمواتاة والمحك، ولله في طيّ هذا العالم العلويّ أسرار وخفايا وغيوب ومكامن لا قوّة لأحد من البشر بالحسّ ولا بالعقل أن يحوم حولها، أو يبلغ عمقها، أو يدرك كنهها، ومن تصرّف عرف، ومن عرف سلم، والسلام.
وحكى لنا أبو سليمان أنّ أرسطوطاليس كتب إلى رجل لم يشفّعه في رجل سأله الكلام له في حاجة: إن كنت أردت ولم تقدر فمعذور، وإن كنت قدرت ولم ترد فسوف يجيء وقت تريد ولا تقدر.
وقال بعض الحكماء: لا ترفّهوا السّفلة فيعتادوا الكسل والراحة، ولا تجرّئوهم فيطلبوا السّرف والشّغب، ولا تأذنوا لأولادهم في تعلّم الأدب فيكونوا لرداءة أصولهم أذهن «١» وأغوص، وعلى التعلّم أصبر، ولا جرم فإنهم إذا سادوا في آخر الأمر خرّبوا بيوت العلية أهل الفضائل.
وقال فيلسوف: للنفس خمس قوى: الحسّ والوهم والذّهن والاختبار والفكر.
فأما الحسّ فلحاق الأشياء بلا فحص، ولا يحتاج في ذلك اللّحاق إلى شيء آخر، إلا أن يكون ممنوعا بمانع، وذلك إذا وجد شيئا أبيض حكم بأنه أبيض بلا فكر ولا قياس.
وأما الوهم، فإنه يقع على الأشياء بتوسّط الحسّ.
وأما الاختبار فيوافق الفكر، كقولك: النفس لا تموت، فهذا قول اختباريّ بعد الفكر، فإن كان هذا هكذا فالاختبار ليس بقياس، ولكنه أفق القياس.
وأما الذّهن فإنه لا يهجم على أوائل الأشياء.
وقال آخر شبيها بهذا الكلام، ولا بأس أن يكون مضموما إليه، ليكون شمل الفائدة أكثر نظاما وأقرب مراما.
قال: ليس للحواسّ والحركات فعل دون أن تبعثها القوّة المميّزة، فلذلك لا يحسّ السّكران ولا النائم، وكذلك أيضا البهائم فإنها لا تصيح إلا بعد أن يعرض في فكرها شيء، ولا تتحرّك إلّا بانبعاث القوّة المميّزة.
ولكل واحد من الحيوان ثلاثة أرواح في ثلاثة أعضاء رئيسة: نفسيّة في الدماغ، وحيوانيّة في القلب، وطبيعيّة في الكبد.