وأما أبو زيد البلخيّ- وهو سيّد أهل المشرق في أنواع الحكمة فذكر أنّه محال ولا أصل له، وأنّ حكمة الله تعالى لا توجب صحة هذا الأمر، وأنّ صحّته مفسدة عامّة، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ
[البقرة: ٢٠٥] .
وأمّا مسكويه- وها هو بين يديك- فيزعم أن الأمر حقّ وصحيح، والطبيعة لا تمنع من إعطائه، ولكنّ الصناعة شاقّة، والطّريق إلى إصابة المقدار عسرة، وجمع الأسرار صعب وبعيد، ولكنه غير ممتنع، فقد مضى عمره في الإكباب على هذا بالريّ أيام كان بناحية أبي الفضل وأبي الفتح ابنه مع رجل يعرف بأبي الطّيّب، شاهدته ولم أحمد عقله، فإنه كان صاحب وسواس وكذب وسقط، وكان مخدوعا في أوّل أمره، خادعا في آخر عمره.
وأبين ما سمعته في هذا الحديث أنّ الطبيعة فوق الصناعة، وأنّ الصناعة دون الطبيعة، وأن الصّناعة تتشبّه بالطبيعة ولا تكمل، والطّبيعة لا تتشبّه بالصناعة وتكمل، وأنّ الطبيعة قوّة إلهيّة سارية في الأشياء واصلة إليها، عاملة فيها بقدر ما للأشياء من القبول والاستحالة والانفعال والمواتاة، إما على التّمام، وإما على النقصان. وقيل: إنّ الطبيعة لا تسلك إلى إبراز ما في المادّة أبعد الطرق، ولا تترك أقرب الطّرق، فلما كانت المعادن هي التي تعطي هذه الجواهر على قدر المقابلات العلويّة والأشكال السماويّة والموادّ السّفليّة والكائنات الأرضية، لم يجز أن تكون الصناعة مساوية لها، كما لم يجز أن تكون مستعلية عليها، لأن الصناعة بشريّة مستخرجة من الطبيعة التي هي إلهيّة، ولا سبيل لقوّة بشريّة أن تنال قوّة إلهيّة بالمساواة، فأما التشبيه والتقريب والتّلبيس، فيمكن أن يكون بالصّناعة شيء كأنّه ذهب أو فضّة، وليس هو في الحقيقة، لا ذهب ولا فضّة، وإذا كان ظهور القطن بالطّبيعة وظهور الثوب بالصّناعة فليس لهذه أن تعرض لهذه، ولا لهذه أن تعرض لهذه، والأمور موزونة، والصناعات متناهية، فإن ادّعي في شيء من الصناعة ما يزيد عليها حتى تكون كأنها الطبيعة، احتيج إلى برهان واضح، وإلى عيان مصرّح، لأنّا نعلم أنّه ما من صناعة ولا علم ولا سياسة ولا نحلة ولا حال إلا وقد حمل عليها، وزيد فيها وكذب من أجلها بما إذا طلبت صحّته بالبرهان لم تجد، أو بالعيان لم تقدر.
فأما أصحاب النّسك ومن عرف بالعبادة والصّلاح، فقد ادّعي لهم أن الصّفر يصيّر لهم ذهبا، وشيئا آخر يصيّر فضة، وأن الله عزّ وجلّ يزلزل لهم الجبل وينزل لهم القطر، وينبت لهم الأرض، وغير ذلك مما هو كالآيات للأنبياء الذين يأتون من قبل الله بالكتب والوصايا والأحكام والمواعظ والنصائح، وربما يسمّي كثير من الناس ما يظهر للزّهّاد والعبّاد من هذا الضرب كرامات ولا يسمّيها معجزات، والحقائق لا تنقلب بالأسماء، فإن المسمّى بالكرامة هو المسمّى بالمعجزة والآية.