وقال فيلسوف آخر: العادات قاهرات، فمن اعتاد شيئا في السّرّ فضحه في العلانية.
قال أبو سليمان: وهذا صحيح، لأن حقيقة العادة في الشيء المعهود عوده بعد عوده، فهي- أعني العادة- الاستمرار الّذي يقهر من اعتاده، والخلوة حال، والعلانية حال، والعادة بجريانها تهجم في الحالين ولا تفرق، ولهذا ما قيل: العادة هي الطبيعة الثانية، كأنّ الطبيعة عادة، ولكنها الأولى بالجبلّة، والعادة طبيعة ولكنّها الأخرى بحسن الاختيار أو بسوء الاختيار.
وقال فيلسوف: ما أكثر من ظنّ أنّ الفقير هو الّذي لا يملك شيئا كثيرا وهذا فقير من جهة العرض، فأمّا الفقير الطبيعيّ فالّذي شهواته كثيرة وإن كان كثير المال، كما أن الغنيّ الطبيعيّ لا يحتاج إلى شيء وإن كان قليل المال، أي الّذي ملك نفسه وقمع شهواته وأخمد لهب إرادته، وقد ظنّ قوم أنّ الّذين منعوا من الشّهوات، ووصوا بالزّهد في اللّذات، خانوا الناس وحالوا بينهم وبين حظوظهم، وحرموهم ما هو لهم، وصدّوهم عن محبوباتهم، وهذا ظنّ خطأ، وأيّ مراد في هذا للواعظين والمزهّدين، والذين وصّوا وأشفقوا، وردعوا عن الخوض في لذّات النفوس الغضبيّة والبهيميّة؟
والله ما كان ذلك منهم إلّا على طريق النصيحة والشفقة والإعذار والإنذار، إلّا أن يكون الّذين ظنوا هذا إنما ظنّوه لأنهم رأوا بعض المزهّدين راغبا، وبعض الناصحين غاشّا، وبعض الآمرين مخالفا، وليس العمل على المحتال، وعلى من آثر الغشّ في المقال، ولكنّ المرجع إلى ما يدلّ عليه الحقّ، ويشهد له العقل، ويصحّ فيه البرهان، أترى الفيلسوف غشّ في قوله لأصحابه: اقنعوا بالقوت، وانفوا عن أنفسكم الحاجة، ليكون لكم قربة إلى الله، لأنّ الله غير محتاج، كلّما احتجتم أكثر كنتم منه أبعد، واهربوا من الشرّ والإثم، واطلبوا من الخير أعمّه وأعظمه، وأبقاه وأدومه، واعرفوا الأبد، واطلبوا السّرمد، فإنّ من طلب الأبد ثم وجد بقي على الأبد، ومن طلب الأمد ثم وجد فنى على الأمد.
الحاجة ذلّ، والغنى عزّ، والعزّ ضدّ الذلّ، فمن طلب العزّ في العاجلة فقد طلب الذّلّ وهو لا يدري، ومن طلب العزّ في الآجلة فقد وجد العزّ وهو يدري.
في الحكمة أن يقال: اصبر على الذّلّ لتنال العزّ، وليس في الحكمة اثبت على العزّ لتنال الذلّ، هذا معكوس.