في المنزلة الثالثة من كتابه، قال لنا عليّ بن عيسى الوزير: عرض عليّ قدامة كتابه سنة عشرين وثلاثمائة، واختبرته فوجدته قد بالغ وأحسن، وتفرّد في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة بما لم يشركه فيه أحد من طريق اللّفظ والمعنى، ممّا يدلّ على المختار المجتبى والمعيب المجتنب. ولقد شاكه فيه الخليل بن أحمد في وضع العروض، ولكنّي وجدته هجين اللّفظ، ركيك البلاغة في وصف البلاغة، حتّى كأنّ ما يصفه ليس ما يعرفه، وكأنّ ما يدلّ به غير ما يدلّ عليه. والعرب تقول: فلان يدلّ ولا يدلّ، حكاه ابن الأعرابي، وهذا لا يكون إلا من غزارة العلم، وحسن التصوّر، وتوارد المعنى، ونقد الطّبع، وتصرّف القريحة. قال: ولولا أنّ الأمر على ما ذكرت لكان ذلك الطريق الّذي سلكه، والفنّ الّذي ملكه، والكنز الذي هجم عليه، والنّمط الذي ظفر به، قد برز في أحسن معرض، وتحلّى بألطف كلام، وماس في أطول ذيل، وسفر عن أحسن وجه، وطلّع من أقرب نفق، وحلّق في أبعد أفق.
وابن المراغيّ يقول كثيرا- وهو شيخ من جلّة العلماء، وله سهم واف في زمرة البلغاء-: ما أحسن معونة الكلمات القصار، المشتملة على الحكم الكبار، لمن كانت بلاغته في صناعته بالقلم واللّسان، فإنّها توافيه عند الحاجة، وتستصحب أخواتها على سهولة، وهكذا مصاريع أبيات الشّعر، فإنّها تختلط بالنّثر متقطّعة وموزونة، ومنتثرة ومنضودة.
قال لي ابن عبيد الكاتب: بلغني هذا الوصف عن هذا الشيخ، فبلوته بالتتبّع فوجدته على ما قال، وما أشبه ما ذكره إلّا بالصّرّة «١» المعدّة عند الإنسان، لما يحتاج إليه في الوقت المهمّ والأمر الملمّ، فهذا هذا.
فقال- أدام الله دولته، وكبت أعداءه-: قدّم هذا الباب فقد أتى على ما لم أظنّ أنه يؤتى عليه ويهتدى إليه- إذا شئت، وانصرفت.