وقد كان هذا الباب يتنافس فيه أوان كان للخلافة بهجة، وللنّيابة عنها بهاء، وللدّيانة معتقد وللمروءة عاشق، وللخير منتهز، وللصّدق مؤثر، وللأدب شراة، وللبيان سوق، وللصّواب طالب، وفي العلم راغب، فأما اليوم واليد عنه مقبوضة، والذّيل دونه مشمّر، والمتحلّي بجماله مطرود، والمباهي بشرفه مبعد، فما يصنع به، ولله أمر هو بالغه.
وقال ابن دأب: قال لي ابن موسى: اجتمعنا عند عبد الملك بن مروان فقال:
أيّ الآداب أغلب على الناس؟ فقلنا فأكثرنا في كل نوع، فقال عبد الملك: ما الناس إلى شيء أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاورون القول، ويتعاطون البيان، ويتهادون الحكم، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها، ويجمعون ما تفرّق منها، إن الكلام فارق للحكم بين الخصوم، وضياء يجلو ظلم الأغاليط، وحاجة الناس إليه كحاجتهم إلى موادّ الأغذية.
وقد قال زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللّحم والدّم
فقلنا: لم يقله زهير، إنما قاله زياد الأعجم، فقال: لا، قاله من هو أعظم تجربة وأنطق لسانا منه.
وقال أبو العيناء: سمعت العبّاس بن الحسن العلويّ يصف كلام رجل فقال:
كلامه سمح سهل، كأنّ بينه وبين القلوب نسب، وبينه وبين الحياة سبب، كأنّما هو تحفة قادم، ودواء مريض، وواسطة قلادة.
ورأيت أبا إسحاق الصابي وهو يعجب من فصل قرأه من كتاب ورد عليه، وهو: أشعر قلبك يأس مجاوز السّبيل، مقصّر عن الشّوط.
وقال ابن ذكوان: سمعت إبراهيم بن العبّاس الصّوليّ يقول: ما سمعت كلام محدثا أجزل في رقّة، ولا أصعب في سهولة، ولا أبلغ في إيجاز، من قول العبّاس بن الأحنف:
تعالي نجدّد دارس العهد بيننا ... كلانا على طول الجفاء ملوم
أناسية ما كان بيني وبينها ... وقاطعة حبل الصّفاء ظلوم
وفي الجملة، أحسن الكلام ما رقّ لفظه، ولطف معناه، وتلألأ رونقه، وقامت صورته بين نظم كأنّه نثر، ونثر كأنّه نظم، يطمع مشهوده بالسّمع، ويمتنع مقصوده على الطّبع، حتّى إذا رامه مريغ حلّق، وإذا حلّق أسفّ، أعني يبعد على المحاول بعنف، ويقرب من المتناول بلطف.
وما رأيت أحدا تناهى في وصف النّثر بجميع ما فيه وعليه غير قدامة بن جعفر