وأما بلاغة المثل فأن يكون اللفظ مقتضبا، والحذف محتملا، والصورة محفوظة، والمرمى لطيفا، والتّلويح كافيا، والإشارة مغنية، والعبارة سائرة.
وأما بلاغة العقل فأن يكون نصيب المفهوم من الكلام أسبق إلى النّفس من مسموعه إلى الأذن، وتكون الفائدة من طريق المعنى أبلغ من ترصيع اللّفظ، وتقفية الحروف، وتكون البساطة فيه أغلب من التركيب، ويكون المقصود ملحوظا في عرض السّنن، والمرمى يتلقّى بالوهم لحسن التّرتيب.
وأما بلاغة البديهة فأن يكون انحياش اللّفظ للّفظ في وزن انحياش المعنى للمعنى، وهناك يقع التعجّب للسامع، لأنّه يهجم بفهمه على ما لا يظنّ أنه يظفر به كمن يعثر بمأموله، على غفلة من تأميله، والبديهة قدرة روحانيّة، في جبلّة بشريّة، كما أنّ الرّويّة صورة بشريّة، في جبلّة روحانيّة.
وأما بلاغة التأويل فهي التي تحوج لغموضها إلى التدبّر والتصفّح، وهذان يفيدان من المسموع وجوها مختلفة كثيرة نافعة، وبهذه البلاغة يتسع في أسرار معاني الدّين والدّنيا، وهي الّتي تأوّلها العلماء بالاستنباط من كلام الله عزّ وجلّ وكلام رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- في الحرام والحلال، والحظر والإباحة، والأمر والنّهي، وغير ذلك مما يكثر، وبها تفاضلوا، وعليها تجادلوا، وفيها تنافسوا، ومنها استملوا، وبها اشتغلوا، ولقد فقدت هذه البلاغة لفقد الرّوح كلّه، وبطل الاستنباط أوّله وآخره، وجولان النفس واعتصار الفكر إنّما يكونان بهذا النّمط في أعماق هذا الفنّ، وهاهنا تنثال الفوائد، وتكثر العجائب، وتتلاقح الخواطر، وتتلاحق الهمم، ومن أجلها يستعان بقوى البلاغات المتقدّمة بالصّفات الممثّلة، حتى تكون معينة ورافدة في إثارة المعنى المدفون، وإنارة المراد المخزون.
وأمثلة هذه الأبواب موجودة في الكتب، ولولا ذلك لرسمت في هذا المكان لكل فنّ مثالا وشكّلت شكلا، ولو فعلت ذلك لكنت مكرّرا لما قد سبق إليه، ومتكلّفا ما قد لقّن من قبل. على أنّ الزّهد في هذا الشّأن قد وضع عنّا وعن غيرنا مؤونة الخوض فيه، والتعنّي به، والتوفّر عليه، وتقديمه على ما هو أهمّ منه، أعني طلب القوت الّذي ليس إليه سبيل إلا ببيع الدّين، وإخلاق المروءة، وإراقة ماء الوجه، وكدّ البدن، وتجرّع الأسى، ومقاساة الحرفة، ومضّ الحرمان، والصّبر على ألوان وألوان، والله المستعان.