وقال أعرابيّ آخر:
ما زال أخذهم في النّحو يعجمني ... حتّى سمعت كلام الزّنج والرّوم
وقال أبو سليمان: نحو العرب فطرة، ونحونا فطنة، فلو كان إلى الكمال سبيل لكانت فطرتهم لنا مع فطنتنا، أو كانت فطنتنا لهم مع فطرتهم.
وقال: لمّا تميّزت الأشياء في الأصول، تلاقت ببعض التّشابه في الفروع، ولمّا تباينت الأشياء بالطّبائع، تألّفت بالمشاكلة في الصّنائع، فصارت من حيث افترقت مجتمعة، ومن حيث اجتمعت مفترقة، لتكون قدرة الله- عزّ وجلّ- آتية على كلّ شيء، وحكمته موجودة في كلّ شيء، ومشيئتة نافذة في كلّ شيء.
وقد أنشد بعض الأعراب ما يقتضي هذا المكان رسمه فيه، لأنّه موافق لما نحن فيه في ذكره ووصفه.
قال:
ماذا لقيت من المسعربين ومن ... تأسيس نحوهم هذا الّذي ابتدعوا
إن قلت قافية فيه يكون لها ... معنى يخالف ما قاسوا وما وضعوا
قالوا لحنت وهذا الحرف منخفض ... وذاك نصب وهذا ليس يرتفع
وحرّشوا بين عبد الله واجتهدوا ... وبين زيد وطال الضّرب والوجع
إنّي نشأت بأرض لا تشبّ بها ... نار المجوس ولا تبنى بها البيع
ولا يطا القرد والخنزير ساحتها ... لكنها بها الهيق والسّيدان «١» والصدع
ما كلّ قولي معروف لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... وآخرين على إعرابهم طبعوا
وبين قوم رأوا شيئا معاينة ... وبين قوم رووا بعض الّذي سمعوا
فهذا هذا.
وقال أبو سليمان: البلاغة ضروب: فمنها بلاغة الشّعر ومنها بلاغة الخطابة ومنها بلاغة النثر، ومنها بلاغة المثل، ومنها بلاغة العقل، ومنها بلاغة البديهة، ومنها بلاغة التأويل.
قال: فأمّا بلاغة الشّعر فأن يكون نحوه مقبولا، والمعنى من كلّ ناحية مكشوفا، واللفظ من الغريب بريئا، والكناية لطيفة، والتصريح احتجاجا، والمؤاخاة موجودة، والمواءمة ظاهرة.
وأما بلاغة الخطابة فأن يكون اللّفظ قريبا، والإشارة فيها غالبة، والسّجع عليها مستوليا، والوهم في أضعافها سابحا، وتكون فقرها قصارا، ويكون ركابها شوارد إبل.