وأين من يفتخر بالقريض، ويدلّ بالنّظم، ويباهي بالبديهة، من وزير الخليفة، ومن صاحب السّرّ، وممن ليس بين لسانه ولسان صاحبه واسطة، ولا بين أذنه وأذنه حجاب؟! ومتى كانت الحاجة إلى الشعراء كالحاجة إلى الوزراء؟! ومتى قام وزير لشاعر للخدمة أو للتّكرمة؟! ومتى قعد شاعر لوزير على رجاء وتأميل؟! بل لا ترى شاعرا إلّا قائما بين يدي خليفة أو وزير أو أمير باسط اليد، ممدود الكفّ، يستعطف طالبا، ويسترحم سائلا، هذا مع الذّلّة والهوان، والخوف من الخيبة والحرمان، وخطر الرّدّ عليه في لفظ يمرّ، وإعراب يجري، واستعارة تعرض، وكناية تعترض، ثمّ يكون مقليّا مشينا بما يظنّ به من الهجاء الذي ربما دلّاه في حومة الموت، وقد برّأ الله تعالى بإحسانه القديم ومنّه الجسيم صاحب البلاغة من هذا كلّه، وكفاه مؤونة الغدر به، والضّرر فيه.
قال: وكان ابن ثوابة إذا جال في هذه الأكناف لا يلحق شأوه، ولا يشقّ غباره، ولا يطمع في جوابه.
قال: وله مناظرات واسعة في هذا الباب مع جماعة من أهل زمانه ناقضوه وعارضوه، وكاشفوه وواجهوه، فثبت لهم، وانتصف منهم، وأربى عليهم، ولم يقلع عن مسالطتهم ومبالطتهم إلى أن نكصوا على أعقابهم، وراجعوا ما هو أولى بهم.
قال أبو سليمان: المعاني المعقولة بسيطة في بحبوحة النفس، لا يحوم عليها شيء قبل الفكر، فإذا لقيها الفكر بالذّهن الوثيق والفهم الدّقيق ألقى ذلك إلى العبارة، والعبارة حينئذ تتركّب بين وزن هو النّظم للشّعر، وبين وزن هو سياقة الحديث، وكلّ هذا راجع إلى نسبة صحيحة أو فاسدة، وصورة حسناء أو قبيحة، وتأليف مقبول أو ممجوج، وذوق حلو أو مرّ وطريق سهل أو وعر، واقتضاب مفضّل أو مردود، واحتجاج قاطع أو مقطوع، وبرهان مسفر أو مظلم، ومتناول بعيد أو قريب، ومسموع مألوف أو غريب.
قال: فإذا كان الأمر في هذه الحال على ما وصفنا فللنثر فضيلته الّتي لا تنكر، وللنّظم شرفه الّذي لا يجحد ولا يستر، لأنّ مناقب النّثر في مقابلة مناقب النّظم، ومثالب النّظم في مقابلة مثالب النّثر، والذي لابدّ منه فيهما السّلامة والدّقّة، وتجنّب العويص، وما يحتاج إلى التأويل والتخليص.
وقد قال بعض العرب: خير الكلام ما لم يحتج معه إلى كلام.
ووقف أعرابيّ على مجلس الأخفش فسمع كلام أهله في النّحو وما يدخل معه، فحار وعجب، وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ قال:
أراكم تتكلّمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا.