عجائب ما استحزن فيها من آثار الطّبيعة الشّريعة، وشواهد القدرة الصادقة، وما هكذا النّثر، فإنّه قصّر عن هذه الذّروة الشّامخة، والقلّة العالية، فصار بذلك بذلة لكافّة الناطقين من الخاصّة والعامّة والنساء والصّبيان.
وقال أيضا: من فضائل النّظم أنّه لا يغنّى ولا يحدى إلا بجيّده ولا يؤهّل للحن الطّنطنة، ولا يحلّى بالإيقاع الصحيح غيره، لأن الطّنطنات والنّقرات، والحركات والسكنات لا تتناسب إلّا بعد اشتمال الوزن والنّظم عليها، ولو كان فعل هذا بالنّثر كان منقوصا، كما لو لم يفعل هذا بالنّظم لكان محسوسا، والغناء معروف الشّرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معابثة الروح، ومناغاة العقل، وتنبيه النّفس، واجتلاب الطّرب وتفريج الكرب، وإثارة الهزّة، وإعادة العزّة، وإذكار العهد، وإظهار النّجدة، واكتساب السّلوة، وما لا يحصى عدده.
ويقال: ما أحسن هذه الرسالة لو كان فيها بيت من الشّعر، ولا يقال: ما أحسن هذا الشّعر لو كان فيه شيء من النّثر، لأنّ صورة المنظوم محفوظة، وصورة المنثور ضائعة.
وقال ابن نباتة: من فضل النّظم أنّ الشّواهد لا توجد إلّا فيه، والحجج لا تؤخذ إلّا منه، أعني أنّ العلماء والحكماء والفقهاء والنحويّين واللّغويّين يقولون:«قال الشاعر» ، و «هذا كثير في الشّعر» ، و «الشّعر قد أتى به» ، فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجّة، والشعر هو الحجّة.
وقال الخالع: للشّعراء حلبة، وليس للبلغاء حلبة، وإذا تتبّعت جوائز الشّعراء التي وصلت إليهم من الخلفاء وولاة العهود والأمراء والولاة في مقاماتهم المؤرّخة، ومجالسهم الفاخرة، وأنديتهم المشهورة، وجدتها خارجة عن الحصر، بعيدة من الإحصاء، وإذا تتبّعت هذه الحال لأصحاب النّثر لم تجد شيئا من ذلك، والناس يقولون: ما أكمل هذا البليغ لو قرض الشّعر! ولا يقولون: ما أشعر هذا الشاعر لو قدر على النّثر! وهذا لغنى الناظم عن النّاثر، وفقر الناثر إلى الناظم، وقد قدّم الناس أبا عليّ البصير على أبي العيناء، لأنّ أبا عليّ جمع بين الفضيلتين، وضرب بالسّيفين في الحومتين، وفاز بالقدحين المعلّيين في المكانين.
وقال لنا الأنصاريّ: سمعت ابن ثوابة الكاتب يقول: لو تصفّحنا ما صار إلى أصحاب النثر من كتّاب البلاغة، والخطباء الذين ذبّوا عن الدّولة، وتكلّموا في صنوف أحداثها وفنون ما جرى الليل والنهار به، ممّا فتق به الرّتق، ورتق به الفتق، وأصلح به الفاسد، ولمّ به الشّعث، وقرّب به البعيد، وبعّد به القريب، وحقّق به الحقّ، وأبطل به الباطل، لكان يوفي على كلّ ما صار إلى جميع من قال الشّعر ولاك القصيد، ولهج بالقريض، واستماح بالمرحمة، ووقف موقف المظلوم، وانصرف انصراف المحروم،