بين الأكباد المحرقة، والمحسن إلى القلوب المتصدّعة والعيون الباكية إذا غنّت.
أعط الشّباب نصيبه ... ما دمت تعذر بالشّباب
وانعم بأيام الصّبى ... واخلع عذارك في التّصابي
فإنه إذا سمع هذا منها انقلبت حماليق عينيه، وسقط مغشيا عليه، وهات الكافور وماء الورد، ومن يقرأ في أذنه آية الكرسيّ والمعوّذتين، ويرقى بهيا شراهيا «١» .
ولا طرب أبي الوزير الصوفيّ القاطن في دار القطان عند جامع المدينة على «قلم القضيبية» إذا تناوأت في استهلالها، وتضاجرت على ضجرتها، وتذكّرت شجوها الذي قد أضناها وأنضاها، وسلبها منها وأنساها إياها. ثم اندفعت وغنّت بصوتها المعروف بها.
أقول لها والصبح قد لاح نوره ... كما لاح ضوء البارق المتألّق
شبيهك قد وافى وحان افتراقنا ... فهل لك في صوت ورطل مروّق
فقالت حياتي في الذي قد ذكرته ... وإن كنت قد نغّصته بالتفرّق
ولا طرب الجراحى أبي الحسن مع قضائه في الكرخ وردائه المحشّى، وكمّيه المفدّرين ووجنتيه المتخلّجتين، وكلامه الفخم، وإطراقه الدائم، فإنّه يغمز بالحاجب إذا رأى مرطا، وأمّل أن يقبّل خدّا وقرطا، على غناء شعلة:
لابدّ للمشتاق من ذكر الوطن ... واليأس والسّلوة من بعد الحزن
وقيامته تقوم إذا سمعها ترجّع في لحنها.
لو أنّ ما تبتليني الحادثات به ... يلقى على الماء لم يشرب من الكدر
فهناك ترى شيبة قد ابتلّت بالدموع، وفؤادا قد نزا إلى اللهاة، مع أسف قد ثقب القلب، وأوهن الرّوح، وجاب «٢» الصّخر، وأذاب الحديد، وهناك ترى والله أحداق الحاضرين باهتة، ودموعهم متحدّرة، وشهيقهم قد علا رحمة له، ورقّة عليه، ومساعدة لحاله، وهذه صورة إذا استولت على أهل مجلس وجدت لها عدوى لا تملك، وغاية لا تدرك، لأنّه قلّما يخلو إنسان من صبوة أو صبابة، أو حسرة على فائت، أو فكر في متمنّى، أو خوف من قطيعة، أو رجاء لمنتظر، أو حزن على حال، وهذه أحوال معروفة، والناس منها على جديلة «٣» معهودة.