تخضع لخطرات العقل وطيران الخيال وشجون الحديث. حتى لنجد في الكتاب مسائل من كل علم وفن، فأدب وفلسفة وحيوان ومجون وأخلاق وطبيعة وبلاغة وتفسير وحديث وغناء ولغة وسياسة وتحليل شخصيات لفلاسفة العصر وأدبائه وعلمائه وتصوير للعادات وأحاديث المجالس، وغير ذلك مما يطول شرحه.
فلما أراد أبو حيان أن يدوّن لأبي الوفاء ما دار بينه وبين الوزير زاد فيه ونمق الحديث. وكان يدوّن جزءا ويرسله إلى أبي الوفاء ويتبعه بجزء آخر وهكذا ...
وحدث هو نفسه عن ذلك كله في أول الجزء الثاني فقال:«قد فرغت من الجزء الأول على ما رسمت لي القيام به، وشرفتني بالخوض فيه، وسردت في حواشيه أعيان الأحاديث التي خدمت بها مجلس الوزير، ولم آل جهدا في روايتها وتقويمها، ولم أجنح إلى تعمية شيء منها، بل زبرجت كثيرا بناصع اللفظ مع شرح الغامض، وصلة المحذوف، وإتمام المنقوص، وحملته إليك على يد «فائق» الغلام، وأنا حريص على أن أتبعه بالجزء الثاني، وهو يصل إليك في الأسبوع إن شاء الله.
وقد خاف أبو حيان من بعض ما ورد في الكتاب، فإنه في حديثه مع الوزير عاب أشخاصا من رجالات الدولة الذين يستطيعون إيذاءه، فرجا أبو الوفاء أن يحفظ هذا الكتاب سرا، فقال:«وأنا أسألك ثانية على طريق التوكيد كما سألتك على طريق الاقتراح أن تكون هذه الرسالة مصونة عن عيون الحاسدين العيابين، بعيدة عن تناول أيدي المفسدين المنافسين، فليس كل قائل يسلم، ولا كل سامع ينصف» .
وقد أنجز أبو حيان وعده، وأرسل إليه الجزء الثاني على يد غلامه فائق أيضا.
ثم أرسل إليه الجزء الثالث وهو الأخير، وقال في أوله:
«قد أرسلت إليك الجزءين الأول والثاني. وهذا الجزء- وهو الثّالث قد والله ألقيت فيه كل ما في نفسي من جد هزل، وغث وسمين، وشاحب ونضير، وفكاهة وأدب، واحتجاج واعتذار ... ولأنه آخر الكتاب ختمته برسالة وصلتها بكلام في خاص أمري» .
وعلى هذا الوضع ينتهي الكتاب.
ولست أستبعد أن يكون أبو حيان قد تزيد فيه، واخترع أشياء لم تجر في مجلس الوزير، فقد عرف عنه أمثلة من هذا القبيل، فقد اتهمه العلماء من قبل ومنهم ابن أبي الحديد بأنه وضع الرسالة المشهورة المعزوّة إلى أبي عبيدة على لسان أبي بكر وعمر في حق علي بن أبي طالب، ولعل هذا التزيد كان من ضمن الأسباب التي دعته أن يرجو أبا الوفاء في أن يكون الكتاب سرا، فإنه ألّف الكتاب في حياة الوزير، وخشي أن الوزير يطلع عليه فيعلم مقدار ما تزيد.