وما أحسن ما قال من قال:
ما العيش إلا في جنون الصّبى ... فإن تولّى فجنون المدام
هذا كلّه يمرّ وما هو أشجى منه وأرقّ، وأعجب وأظرف، ثم يندفع علوان ويغنّي في أبيات بشّار:
ألا يا قوم خلّوني وشاني ... فلست بتارك حبّ الغواني
نهوني يا عبيدة عن هواكم ... فلم أقبل مقالة من نهاني
فإن لم تسعفي فعدي ومنّي ... خداعا لا أموت على بيان
ولا طرب أبي سعيد الرّقيّ على غناء مذكورة إذا اندفعت وغنّت:
سررت بهجرك لما علمت ... بأنّ لقلبك فيه سرورا
ولولا سرورك ما سرّني ... ولا كان قلبي عليه صبورا
ولكن أرى كلّ ما ساءني ... إذا كان يرضيك سهلا يسيرا
ولا طرب ابن ميّاس على غناء حبابة جارية أبي تمّام إذا غنّت:
صددنا كأنّا لا مودّة بيننا ... على أنّ طرف العين لابدّ فاضح
ومدّ إلينا الكاشحون عيونهم ... فلم يبد منّا ما حوته الجوانح
وصافحت من لاقيت في البيت غيرها ... وكلّ الهوى منّي لمن لا أصافح
وحبابة هذه كانت تنوح أيضا، وكانت في النّوح واحدة لا أخت لها، والناس بالعراق تهالكوا على نوحها، ولولا أني أكره ذكره لرقعت الحديث به. وقدم من شاش خراسان أبو مسلم- وكان في مرتبة الأمراء- فاشتراها بثلاثين ألف درهم معزّية، وخرج بها إلى المشرق، فقيل: إنها لم تعش به إلا دون سنة لكمد لحقها، وهوى لها ببغداد ماتت منه.
ورأيت لها أختا يقال لها صبابة، وكانت في الحسن والجمال فوقها، وفي الصّنعة والحذق دونها، وزلزلت هذه بغداد في وقتها، ولم يكن للنّاس غير حديثها، لنوادرها، وحاضر جوابها، وحدّة مزاجها، وسرعة حركتها، بغير طيش ولا إفراط، وهذه شمائل إذا اتّفقت في الجواري الصانعات المحسنات خلبن العقول، وخلسن القلوب، وسعّرن الصّدور، وعجلن بعشّاقهنّ إلى القبور.
ولا طرب الكنانيّ المقرئ الشيخ الصالح على غناء هذه في صوتها المعروف بها:
عهود الصّبى هاجت لي اليوم لوعة ... وذكر سليم حين لا ينفع الذّكر
بأرض بها كان الهوى غير عازب ... لدينا وغضّ العيش مهتصر نضر