كأن لم نعش يوما بأجراع بيشة ... بأرض بها أنشا شبيبتنا الدهر
بلى إنّ هذا الدّهر فرّق بيننا ... وأيّ جميع لا يفرّقه الدّهر
ولا طرب غلام بابا على جارية أبي طلحة الشاهد في سوق العطش إذا غنّت:
ليت شعري بك هل تع ... لم أنّي لك عاني
فلقد أسررته من ... ك وأطلعت الأماني
وتوهّمتك في نف ... سي فناجاك لساني
فاجتمعنا وافترقنا ... بالأماني في مكان
ولو ذكرت هذه الأطراب من المستمعين، والأغانيّ من الرّجال والصّبيان والجواري والحرائر- لطال وأملّ، وزاحمت كلّ من صنّف كتابا في الأغاني والألحان، وعهدي بهذا الحديث سنة ستّين وثلاثمائة.
وقد أحصينا- ونحن جماعة في الكرخ- أربعمائة وستّين جارية في الجانبين، ومائة وعشرين حرّة، وخمسة وتسعين من الصّبيان البدور، يجمعون بين الحذق والحسن والظّرف والعشرة، هذا سوى من كنّا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزّته وحرسه ورقبائه، وسوى ما كنّا نسمعه ممّن لا يتظاهر بالغناء وبالضّرب إلا إذا نشط في وقت، أو ثمل في حال، وخلع العذار في هوى قد حالفه وأضناه، وترنّم وأوقع، وهزّ رأسه، وصعّد أنفاسه، وأطرب جلّاسه، واستكتمهم حاله، وكشف عندهم حجابه، وادّعى الثّقة بهم، والاستنامة إلى حفاظهم.
ثم إني أرجع إلى منقطع الكلام في الصّفحة الأولى من هذا الجزء الثالث وأصله بالدّعاء الذي أسأل الله أن يقبله فيك، ويحقّقه لك وبك، وأقول: وأبقاك لي خاصّة، فقد تعصّبت لي غائبا وشاهدا، وتعمّمت بسببي سرّا وجهرا، وبدأت بالتّفضّل، وعدت بالإفضال، وتظاهرت بالفضل، فإن استزدتك فللنّهم الذي قلّما يخلو منه بشر، وإن تظلّمت فللدّالّة التي تغلط بها الخدم، وإن خاشنت فللثّقة بحسن الإجاب، وإن غالظت فلعلمي بغالب الحلم وفرط الاحتمال، وما افترق الكرم والتّغافل قطّ، وما افترق المجد والكيس قطّ، وليس إلّا أن يظلم السّيّد نفسه لعبده في الحقوق اللّازمة وغير اللّازمة، ويعرض عن الحجّة وإن كانت له، والناس يقولون: الحقّ مرّ، وأنا أقول: السؤدد مرّ، والرّئاسة ثقيلة، والنّزول تحت الغبن شديد، لكنّ ذلك كلّه منبت العزّ، ودليل على صحّة الأصل، وباب إلى اكتساب الحمد، وإشادة الذّكر، وإبعاد الصّيت، ومكرم النّفس بإهانة المال وبذل الجاه وإيثار التّواضع أربح تجارة، وأحمى حريما، وأعزّ ناصرا من مهين النّفس بصيانة المال وحبس الجاه واستعمال التكبّر، هذا